الصوم


الصوم

للجسد رغبات خاصة لا يستطيع أن يعيش بدونها .وتنحصر هذه الرغبات في التغذية والشرب والتنفس والملبس والمسكن . فكأن الغاية منها ليست إلا حفظ الجسد صحيحاً وحمايته من الضعف الذي يصحبه الموت . لكن السواد الأعظم من الناس يجهلون هذه الحقيقة فيظنون أنهم لم يخلقوا إلا لكي ينهمكوا في المآكل والمشارب واللذات المختلفة ، وكأنهم يشتركون مع القائلين ” فلنأكل ونشرب لأننا غداً نموت ” ( 1 كو 15 : 32 ) .

ولكن العاقل المنصف هو الذي لا يعطى لجسمه من الرغائب إلا ما هو في حاجة إليه لأن كل ما يزيد عن المقدار الطبيعي يكون ضاراً في معظم الأحيان . فقد يسئ حالته أو يخل نظامه ويجعله يطغى على الروح الطاهرة .        

إن الكثيرين يعيشون في قلق دائم وارتباك مستمر من جهة أمور الجسد . فإذا ما تأملتهم وجدتهم عابسين مكتئبين لأنهم يعولون أجسادهم ، وكأنهم يخافون أن تتخلى عنهم عناية الله فيتعرضوا للجوع أو العطش أو العرى ، ولذلك فهم يقصرون همهم على جمع وتحصيل ما يشتهيه الجسد ، ويواصلون ليلهم بنهارهم في خدمته ، ويا ليت هؤلاء يعلمون أن أي شئ يمكن أن يشبع الجسد ويسد احتياجاته مادام صاحبه قانعاً ” فإن كان لنا قوات وكسوة فلنكتف بهما ” (تى 6 : 8 ) .

الصوم وصية إلهية بل وعطية سماوية أعطاها الله لبنى البشر لكي بواسطته يصلون إلى أعلى الدرجات الروحانية والسمو العقلي فيشتركون مع الملائكة في رؤية المجد الأزلي وتسبيح الذات الأعلى .

وأول وصية أعطيت لآدم في الجنة من قبل الله تعالي هي أن لا يأكل من شجرة معرفة الخير والشر ، وكانت هذه الوصية في حد ذاتها أمراً بالصوم والامتناع من أكل ثمر إحدى الأشجار ليتدرب آدم على قوة الإرادة وصلابة العزم . فيصوم وقت الصوم ويأكل وقت الأكل .  

والواقع أنه كما أن النار تحرق وتطهر من التلوث بالجراثيم والميكروبات وكل ما يسبب الأمراض القاتلة ، هكذا الصوم فإنه يلاش ويقض على كل نزوة طائشة ولذة فاسدة وحركة غير نقية تعمل في النفس لتميل بها إلى جانب الشر والدنس القاتل للنفس .

 

2   ” أذللت بالصوم نفسي ” ( مز 35 : 13 )

الصوم هو فضيلة عظيمة بها نقمع حركات الجسد ونذلله ونطفي حرارته لأن الجسد كلما شبع ثار وكلما ضيق عليه صاحبه في المآكل والمشرب والمسكن وبقية الرغبات هدأ وسكن

إن الذين لا يجعلون للصوم مركزه اللائق به لفي جهل عظيم لأن الصوم ركن أساسي من أركان العبادة ، فكما إننا بالصلاة نعبد الله بنفوسنا فنحن بالصوم نعبده بأجسادنا ، وقد جاء في قوانين الكنيسة ” الصوم زكاة للجسد كما أن الصدقة زكاة المال ” . ولكي يبين السيد المسيح أن الصوم ضروري كما أن الصلاة والصدقة ضروريتان تكلم في عظته على الجبل قائلاً ” فمتي صنعت صدقة .. ومتي صليت .. ومتي صمتم .. ” ( مت 6 : 5 6 ) .

    

3 ثالوث الفضائل

عندما نتحدث عن الصوم نكون قد أمسكنا مثلثاً من أحد أضلاعه الثلاثة التي رسمها السيد المسيح في موعظته على الجبل حين تناول الكلام عن الصدقة فقال : احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكي ينظروكم . و عن الصلاة بقوله:ومتى صليت فلا تكن كالمرائين فإنهم يحبون أن يصلوا قائمين في المجامع وفي زوايا الشوارع لكي يظهروا للناس. وعن الصوم عندما قال : ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين فإنهم يغيرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين.(مت ص 6 ) .

واقتصار السيد المسيح على الكلام عن هذه الفضائل الثلاث و تصحيح الأخطاء التي وقع فيها الفريسيون من جهة هذه الفضائل بإساءة استعمالها ، أمر له دلالته وقوته لأن ثالوث هذه الفضائل هو تعبير للحياة الدينية التي قال عنها يعقوب الرسول : الديانة الطاهرة النقية عند الله الأب هي هذه افتقاد اليتامى و الأرامل في ضيقاتهم وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم ( يع 1 : 27 ) ، وما افتقاد اليتامى و الأرامل في ضيقاتهم إلا بالصدقة وما يحفظ نفس الإنسان من دنس العالم غير الصلاة و الصوم ؟

 

4 الصوم يمسك الصلاة بيمينه و الصدقة بشماله

الكلام عن الصوم هو إمساك لمثلث الحياة الدينية من أحد أضلاعه لأن من يمسك ضلع الصوم بيده يمسك ضلعي الصلاة و الصدقة باليد الأخرى ، لأنه قد يصلي الإنسان دون أن يكون صائماً أو متصدقاً حال الصلاة و كذلك يتصدق الإنسان دون أن يكون صائماً أو مصلياً حال تقديم الصدقة . ولكن الصائم لابد له حال صيامه أن يكون مصلياً لأن الصوم ما هو إلا ظرف لتقديم الصلاة كما هو واضح من الكتاب المقدس الذي ذكر الشيء الكثير عن الذين صاموا كيف أنهم صاموا وصلوا .

 

وكذلك يكون أيضاً متصدقاً لأن الصوم يكون باطلاً بدون الصدقة كما يقول إشعياء النبي : ” أليس هذا صوماً أختاره أن تكسر للجائع خبزك وأن تدخل المساكين التائهين إلى بيتك ، إذا رأيت عرياناً أن تكسوه وأن لا تتغاضى عن لحمك ” ( اش 58 : 6 ، 7 ) . فالصوم إذن يمسك الصلاة بيمينه و الصدقة بشماله .

5 الصوم عن الطمع و الشراهة

إن الطمع و الشراهة مرضان قلما يسلم إنسان منهما . و بسببها يترك المرء خالقه و ينسى الاهتمام بروحه لكي يجمع ويكدس ويذخر الخيرات الزمنية التي يتلذذ بها جسده ، ولذلك يقول الكتاب ” اهتمام الجسد عداوة لله ” ( رو 8 : 7 ) . و الرسول يعطي لغير القانعين درساً بقوله ” تعلمت أن أكون مكتفياً بما أنا فيه . أعرف أن أتضع وأعرف أيضاً أن أستفضل في كل شئ . وفي جميع الأشياء قد تدربت أن أشبع وأن أجوع . وأن أستفضل وأن أنقص . أستطيع كل شئ في المسيح الذي يقويني ” ( في 4 : 13 ) .

 

فما أجمل أن يتعلم الإنسان من رسول الأمم كيف يرضى بحالته ويقتنع بما أعطاه الله فلا يتذمر إذا أمتلك قليلاً و لا يتجبر إذا ملك كثيراً . بل يلزم الرضى و الشكر في كلتا الحالتين . و أعظم مدرسة للتدريب على ذلك هي مدرسة الصوم .

 

6 –  الصدقة طبيعة في الإنسان

الصدقة طبيعة في الإنسان لأن أحط الناس أخلاقاً وأبعدهم عن الدين و الفضيلة تراه بطبيعته يتصدق ويحسن والقول الشائع ” ليتها ما زنت و لا تصدقت ” أكبر دليل على أن الصدقة ميل طبيعي في الإنسان يندفع إليها بعامل في نفسه .

وليس الإنسان وحده متصدقاً بل وعالم الطير و الحيوان أيضاً فطالما أرضعت البقرة أو المعزى يتيماً من نوعها أو من البشر وقد رأى بعضهم حمامة كانت تعرج على عش فيه فراخ صغيرة تركتها أمها ولم تعد إليها لأن صياداً كان قد اصطادها فلم يسع هذه الحمامة إلا أن تصدقت على هذه الفراخ الصغيرة اليتيمة بأنها في كل مرة تأتي حاملة الحبوب في حوصلتها لفراخها تعرج على الفراخ اليتيمة وتضع في أفواهها جزءاً مما أعدته لفراخها .

وكذلك أيضاً عالم النباتات يتصدق وذلك بأن الشجرة إذا ما ارتوت بالماء تركت ما فاض عنها وبقى بعد شربها لبقية الأشجار الأخرى وكذلك الأغصان و الأثمار إذا ما أخذت كفايتها من عصير الشجرة تركت الباقي لبقية الأغصان و الثمر .

وكذلك عالم الجماد يتصدق على النحو الذي يتصدق به الأشجار فإذا ما ارتوت أرض بالماء تركت الباقي يفيض إلى الأرض الملاصقة لها ولو بطريق ” النشع ” الارتشاح .

 

7 الهزيمة المضمونة

وفي الصوم نجاهد في معركة مع إنساننا الداخلي ، ونبدأ نتعلم حياة التوبة ، يقول القديس يوحنا فم الذهب : ” أي زمان هو أوفق للتوبة من زمن الصوم ” . و التوبة في أروع تعريف لها هي تغيير الاتجاه . فإن كنا في البداية لا نغير اتجاه سيرنا المنحرف فكيف نقدم على حرب الجهاد إذ لا نتوقع حينئذ سوى الهزيمة المضمونة . يقول القديس يوحنا كاسيان ” لا نستطيع أن ندخل في معركة مع إنساننا الباطن ما لم نتحرر من رذيلة الشراهة ، يجب أولاً أن نثبت أننا قد تحررنا من الانقياد للجسد .. من المستحيل على المعدة الممتلئة بالطعام أن تدخل في محاول للنضال مع الإنسان الداخلي ، ومن يتغلب في مناوشة تافهة لا يستأهل للدخول في جولات أعنف روحياً .

 

8 الصلاة طبيعة من طبائع الناس

إن الصلاة طبيعة من طبائع الناس يندفع إليها و يمارسها كعمل من أعمال كيانه وكوظيفة من وظائف حياته الطبيعية أليست الصلاة هي الطلب ؟! و أليس الطلب طبيعياً في الإنسان ، يطلب وهو طفل و يعبر بحركات وصرخات ويطلب كل أيام حياته وكل دقائق ساعاته من كل الذين تتصل بهم معيشته و حاجاته .

بل والناس عموماً على اختلاف أجناسهم وأديانهم يصلون حتى الكفرة يشعرون في أوقات الشدة و المخاوف بدافع يدفعهم للجثو على ركبهم للصلاة و التذلل و الاستعانة وكذلك الذين يقعون تحت عبء المسئوليات الخطيرة تراهم يهرعون إلى الصلاة .

وليس الإنسان فقط هو الذي يصلي وحده بدافع من طبيعته بل الطيور بتغريدها وزقزقتها تصلي و الحيوانات بحركاتها وأصواتها تصلي وتطلب من أصحابها حاجتها بل و تصلي إلى الله على حد قول المرنم ” هذا البحر الكبير الواسع الأطراف، هناك دبابات بلا عدد صغار حيوان مع كبار .. كلها إياك تترجى لترزقها قوتها في حينه “( مز 104 : 25 27 ) . وقوله: سبحي الرب من الأرض أيتها التـنانين وكل اللجج. النار والبرد والثلج والضباب والرياح العاصفة الصانعة كلمته..الجبال وكل الآكام الشجر المثمر وكل الأرز والوحوش وكل البهائم الدبابات والطيور ذوات الأجنحة(مز148: 7 – 10) .

ولفعالية الصوم ، نجد ارميا النبي في العهد القديم ، يرى ضرورة اقترانه بالقراءة في الكتاب المقدس “وأوصى ارميا باروخ قائلاً .. فأدخل أنت و أقرأ في الدرج الذي كتبت عن فمي كل كلام الرب في آذان الشعب في بيت الرب في يوم الصوم ” ( أرميا 36 : 5 6 ) .

كما أوضح دانيال النبي ضرورة أن يقترن الصوم بالتذلل و الصلاة و التوبة و الاعتراف قائلاً ” فوجهت وجهي إلى الله السيد طالباً بالصلاة و التضرعات .. بالصوم و المسح و الرماد وصليت إلى الرب إلهي واعترفت وقلت أيها الرب الإلهة العظيم .. أخطأنا وأثمنها و عملنا الشر و تمردنا وحدنا عن وصاياك وعن أحكامك ” ( دا 9 : 3 5 ) .

وفي العهد الجديد ، عندما بدأ السيد المسيح الإله الكلمة المتأنس خدمته الجهارية نجده يوضح كيفية ممارسة الصوم ، و يعلن عن نتيجة الصوم قائلاً ” أما أنت فمتى صمت فأدهن رأسك و أغسل وجهك لا لكي تبدو صائماً للناس بل لأبيك الذي يرى في الخفاء . فأبوك الذي يرى في الخفية يكافئك علانية ” ( متى 6 : 17 17 ) .

كما أعلن رب المجد أن الصوم في حد ذاته ليس له قوة أو فاعلية ما لم يقترن بالصلاة ” إن هذا الجنس لا يخرج إلا بالصلاة و الصوم ” ( متى 17 : 21 ) . وكما أن الصوم بدون صلاة ليس له قوة ، كذلك نجد أن الصوم بدون صدقة ، صوم مرفوض من الله ” طوبى لمن يتعطف على المسكين و الفقير في يوم الشر ينجيه الرب ” ( مز 41 : 1 ) .

 

9 الصوم و الكتاب المقدس و كنيستنا القبطية

مارس أنبياء العهد القديم الصوم ، وعلموا بممارسته لما له من فاعلية في ضبط الحواس الإنسانية و السمو بها و الخلاص من الضيقات و الأعداء ، نذكر منهم :

موسى النبي :

عندما أراد الرب الإله تسليم أحكام الشرائع الإلهية مكتوبة لموسى النبي ، جعله يتهيأ لذلك بصومه على جبل سيناء أربعين نهاراً و أربعين ليلة ” و كان هناك عند الرب أربعين نهاراً و أربعين ليلة لم يأكل خبز ولم يشرب ماء ( خروج 34 : 28 ) وعندما كسر موسى النبي لوحا العهد بعد أن رأى العجل المسبوك الذي صنعه بني إسرائيل وعبدوه أثناء تواجده على جبل سيناء ، صام مرة ثانية ليتهيأ لاستلام بدلاً منها من الله ” ثم سقطت أمام الرب كالأول أربعين نهاراً و أربعين ليلة لا آكل خبزاً ولا أشرب ماء من أجل كل خطاياكم التي أخطأتم بها بعملكم الشر أمام الرب ” ( تثنية 9 : 18 ) .

إيليا النبي :

عندما أرادت إيزابيل قتل إيليا النبي كما قتل هو جميع أنبياء البعل ، و أرسلت إيزابيل آخاب ليعلمه بذلك ، صام أربعين نهاراً و أربعين ليلة عند هروبه إلى جبل حوريب ” فقام وأكل وشرب وسار بقوة تلك الأكلة أربعين نهاراً وأربعين ليلة إلى جبل حوريب”(1ملوك9 : 18).

آخاب الملك :

حتى آخاب الملك الشرير ، عندما سمع كلام إيليا النبي بما سيحل عليه من ضيقات و آلام ، نراه يذلل نفسه بالصوم ” ولما سمع آخاب هذا الكلام شق ثيابه وجعل مسحاً على جسده وصام واضطجع بالمسح ومشى بسكوت ” ( 1 ملوك 21 : 27). وقد استجاب الله لتذلله وقال لإيليا ” فمن أجل أنه قد أتضع أمامي لا أجلب الشر في أيامه ، بل في أيام أبنه أجلب الشر على بيته ” ( 1 ملوك 21 : 29 ) .

يهوشا فاط ملك يهوذا :

عندما علم يهوشا فاط الملك باستعداد بنو مؤاب وبنو عمون ومعهم العمونيون لمحاربته ” طاف يهوشا فاط وجعل وجهه ليطلب الرب ونادى بصوم في كل يهوذا “(2أخبار 20  3).

عزرا النبي :

عندما صام للنصرة على العدو ” وناديت هناك بصوم على نهر أهوا لكي نتذلل أمام إلهنا لنطلب منه طريقاً مستقيمة لنا ولأطفالنا ولكل ما لنا .. فصمنا وطلبنا ذلك من إلهنا فاستجاب لنا ” ( عزرا 8 : 21 23 ) .

نحميا النبي :

عندما علم أن اليهود الباقين من السبي ” في شر عظيم وعار وسور أورشليم متهدم وأبوابها محروقة بالنار يقول” جلست و بكيت ونحت أياماً وصمت أمام إله السماء”(نحميا1: 3 4 ) .

أستير :

عندما طلبت أستير من مردخاي أن يصوم جميع اليهود لخلاصهم من مكيدة هامان قائلة لمردخاي ” أذهب أجمع جميع اليهود الموجودين في شوشن وصوموا من جهتي ولا تأكلوا ولا تشربوا ثلاثة أيام ليلاً و نهاراً . وأنا أيضاً وجواري نصوم كذلك ” ( أستير 4 : 16 ) .

داود النبي :

يقول ” أذللت بالصوم نفسي .. وأبكيت بصوم نفسي .. ركبتاي ارتعشتا من الصوم ولحمي هزل عن سمن ” ( مزمور 35: 13 ، 69 : 10 ، 109 : 24 ) .

إشعياء النبي :

يوضح شروط الصوم المقبول عند الله قائلاً ” أليس هذا صوماً أختاره ، حل قيود الشر . فك عقد النير وإطلاق المسحوقين أحراراً وقطع كل نير ، أليس أن تكسر للجائع خبزك وأن تدخل المساكين التائهين إلى بيتك . إذا رأيت عرياناً أن تكسوه وأن لا تتغاضى عن لحمك ” ( أش 58 : 6 17 ) .

كما يوضح إشعياء النبي أسباب عدم قبول الله لأصوام البعض قائلاً :”ها إنكم في أيام صومكم توجدون مسرة وبكل أشغالكم تسخرون. ها إنكم للخصومة والنزاع تصومون ولتضربوا بكلمة الشر..أمثل هذا يكون صوم أختاره “(أش58: 3 – 5 ).

ارميا النبي :

يعلن أن الرب الإله لا يقبل صوم الخطاة الذين لا يريدوا الرجوع عن خطاياهم قائلاً ” حين يصومون لا أسمع صراخهم وحين يصعدون محرقة وتقدمة لا أقبلهم بل بالسيف و الجوع و الوباء أنا أفنيهم ” ( إر 14 : 12 ) .

يوئيل النبي :

يقول : ” قدسوا صوماً نادوا باعتكاف .. واصرخوا إلى الرب ” ( يوئيل 1 : 14 ) .

يونان النبي :

يقول : ” فآمن أهل نينوى بالله ونادوا بصوم ولبسوا مسوحاً من كبيرهم إلى صغيرهم ” ( يونان 3 : 5 ) .

السيد المسيح و الرسل و الصوم :

صام السيد المسيح ليكون لنا مثالاً نحتذي به وليعلمنا أنه بالصوم نستطيع أن نضبط حواسنا ، وبالتالي نستطيع أن ننتصر على الشيطان ، وننجو من التجارب ” فبعد ما صام أربعين نهاراً وأربعين ليلة جاع أخيراً . فتقدم أليه المجرب .. حينئذ قال يسوع أذهب يا شيطان .. ثم تركه إبليس وإذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه ”  ( متى 4 : 1 11 ) .

وقد صام التلاميذ والرسل بعد أن صعد السيد المسيح جسدياً إلى السماوات بعد أن تم الفداء المجيد وقام منتصراً على الموت ” وبينما هم يخدمون الرب ويصومون قال الروح القدس افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما أليه . فصاموا حينئذ وصلوا عوا عليهما الأيادي ثم أطلقوهما ” ( أعمال 13 : 2 3 ) . 

وقد أعلن الرسول بولس أنه استطاع أن ينتصر على المحاربات والمكائد العديدة بالصوم ” في أتعاب في أسهار في أصوام .. في جوع وعطش في أصوام مراراً كثيرة ” ( 2 كورنثوس 6 : 5 ، 11 : 7 ) .

لذلك ومن أجل فوائد الصوم الروحية والصحية ، يصوم المسيحيون كثيراً ، وفى المسيحية سبعة أصوام عامة ، هي فترات تعبدية يشارك فيها جميع المسيحيين . والاصوام العامة هي غير الأصوام الفردية ، والصوم الفردي هو ما يفرضه الإنسان على نفسه ، تعبداً لله ، أو استغفاراً وطلباً لرحمة الله ورضاه عنه ، أو طلباً للخلاص من ضيقة أو شدة نزلت به أو نزلت بأسرته .

أما الأصوام السبعة فهي :

( 1 ) الصوم المقدس ” الكبير ” : وعدد أيامه 55 يوماً ، الأربعون يوماً التي صامها مخلصنا له المجد ، أما الخمسة عشر يوماً الباقية فهي عبارة عن أسبوعي الاستعداد والآلام.

( 2 ) صوم الميلاد : وعدد أيامه 43 يوماً ، يبتدئ دائماً من 16 هاتور وينتهي بعيد الميلاد الذي يقع في 29 كيهك أو 28 منه إذا كانت السنة السابقة كبيسة .

( 3 ) صوم الرسل : وعدد أيامه يزيد وينقص حسب القاعدة المتفق عليها من المجامع المقدسة المسكونة لضبط عبد الفصح حتى لا يعيد المسيحيون مع اليهود وتتراوح مدته بين 15 و 49 يوماً ، ويبتدئ دائماً بيوم الاثنين الذي يلى عيد العنصره وينتهي باليوم الرابع عشر من أبيب ، وقد أخذته الكنيسة عن الرسل شكراً لله علي ما أنعم به على أبنائها وبناتها من مواهب الروح القدس .

( 4 ) صوم القديسة مريم العذراء : ومدته 15 يوماً يبتدئ بأول شهر مسرى وينتهي باليوم الخامس عشر منه ، وأن أول من صامه هي القديسة مريم حسب شهادة التاريخ الكنسي .

( 5 ) صوم أهل نينوى : الذي نجت به تلك المدينة من غضب الله وحازت رضاه ، وعدد أيامه ثلاثة ويبتدئ عادة بيوم الاثنين وينتهي بيوم الأربعاء و فصحة الخميس دوماً وهو يسبق الصوم الكبير بخمسة عشر يوماً .

( 6 ) صوم يومي الأربعاء والجمعة : على مدار السنة ما عدا أيام الخمسين وعيدي الميلاد والغطاس إذا اتفق فيهما ، وهذان اليومان الأربعاء والجمعة الأول تذكار المؤامرة على السيد المسيح والثاني تذكار صلبه المجيد .

( 7 ) البرامون : ومعناه الاستعداد ويقع قبل عيدي الميلاد والغطاس وتتراوح مدته بين يوم وثلاثة أيام ، فإذا وقع العيد كان البرامون يومين ، وإذا وقع يوم الاثنين كان البرامون ثلاثة أيام وما عدا ذلك فهو يوم واحد .

وقد وضعت الكنيسة ” البرامون ” ليستقبل المؤمنون العيد بما يتفق وكرامته السامية من طهارة جسدية ونقاوة وانسحاق روحي ، تلك التي يساعد الصوم على الحصول عليها مساعدة فعلية لأنه ينبوع الكمالات الروحية والأدبية . هذه الأصوام المقدسة موضوعة لجميع المؤمنين ولا يعفى منها إلا الأطفال والمرأة في حالة وضع والشيوخ الذين تقدمت بهم السن لدرجة معها لا يستطيعون الصوم والمرضى وبذلك تبلغ أيام الأصوام السبعة 239 يوماً أي نحو ثلثي أيام السنة .

 

10 بدعة أسمها الرفاع

حسناً نفعل إذا كنا نستعد لكل خطوة نخطوها فى جهادنا الروحي .. ولكن ليس كل استعداد يمكن أن يرضى الله لأن طريقة الاستعداد قد تقلب الأمور رأساً على عقب . وليس الاستعداد الخاطئ بغريب علينا بل أننا نصنعه قبل كل صوم .

وهذا الاستعداد الخاطئ ما هو إلا بدعه .. بدعه لابد أن نحاربها لأنها تشهد علينا بأننا لم نتفهم معنى الصوم في أعماقه بعد .. فلندخل إلى الأعماق إذن لنواجه هذه البدعة الصغيرة الخطيرة ، إنها بدعه ” الرفاع ” كما نعرفها ونسميها .   

وماذا نرى في هذه المهزلة ؟ نرى الحكمة الإنسانية عندما تفضح جهلها بنفسها فنعرف أن حكمة هذا العالم جهالة أمام الله .. ماذا نرى ؟ موائد معدة من كل ما تشتهيه النفس من مأكولات ومشروبات .. غداً سأصوم فاشبعي يا نفسي وتلذذي لأنني سأحرمك من هذه الأطعمة الشهية لفترة من الزمن .. غداً سأصوم فلتمتلئ معدتي من الأطعمة المغذية الدسمة لأعوض ما سيفوتني منها أثناء الصوم ، هلم فلنسهر حتى منتصف الليل لنستطيع أن نلتهم أكبر كمية ممكنة .

 

11 أثر الموائد الشهية في الرفاع

ولكن .. ! ولكن ما هو أثر المائدة الشهية ؟

من الناحية الجسدية .. يوم متعب لإجهاد المعدة الزائد ، وحتى في هذا اليوم لا يبقى أثر لطعمها اللذيذ الذي كنت اشتهيه قبل الأكل .. لقد أصبحت مجرد ذكرى ، وإن زادت الطاقة فإن للجسم طاقة محدودة لابد أن يطرد ما يزيد عنها خارجاً .. وإن اختزان الجسم شيئاً بتحويله إلى جزء من جسدنا فإن هذا الجزء تافه وضئيل لا يستطيع أن يكون سنداً ومعوضاً لفترة صوم طويلة تلي هذا الرفاع .

ومن الناحية الروحية تظهر خطورة هذا الأثر بصورة لا تقبل الاحتمال .. فإن هذا الرفاع لا يعنى إلا أننا وإن كنا قد نوينا أن نتمتع عن هذه الأطعمة فأننا مازلنا نحبها ونشتهيها .. إننا نثير شهوة حب الطعام فينا عند بدء الصوم .. والشهوة إن ثارت من الصعب عليها السكوت إن لم نشبعها .. إننا في الصوم نريد أن نبدأ مرحلة لتدريب الروح لكننا مازلنا نتمسك بكل العالم ومشتهياته .  

  

12 من البداية

إذا أردنا للسفينة أن تعبر بحرا فإن بداية الرحلة هي أن تترك السفينة الشاطئ وتندفع في البحر نحو هدفها .. ولكن لو فكر قبطانها أن يرفعها على الشاطئ أولاً ويجففها لأنها ستظل مبتلة في الماء طوال الرحلة فأنه عند رغبته في بدء الرحلة سيتعطل إلى حين دون فائدة . أفلا تكون هذه بداية سيئة للرحلة .. أليس هذا هو المنطق الخاطئ في بدعه الرفاع إذا نعطل الاستفادة بالصوم لأننا قد وضعنا في قلبنا حب الجفاف الروحي .. لماذا نطيع الجسد ونشبع شهواته للطعام ؟ فإن شبع وامتلأت المعدة صعبت السيطرة عليه .   

ابدأ حسناً تكمل حسناً ، والبداية الرديئة لا تتبعها إلا رحلة ردية ، الصوم وسيلة يمكن بواسطتها أن نتسامى بالروح إلى السماء والأكل بشراهة وتلذذ يربطنا أكثر بالأرض ويمنع انطلاقنا إلى السماء  .. فإن بدأنا نقوى أربطتنا بالأرض قبل بدء الرحلة إلى السماء فهل يكون هناك شئ غريب إذا لم ننطلق .. إن كانت الرحلة في طريق الشرق ثم بدأناها بأول خطوة في طريق الغرب فهل الاتجاه صحيح . 

لهذا نستطيع أن نقول أن الرفاع والاهتمام بالمأكولات فيه إنما يدل على أنه مازال للشره مكان فينا .

 

13 الصوم والانقطاع عن الطعام

هذا و لا يوجد صوم بدون فترة انقطاع . فجميع الأصوام لا بد أن تمارس بالانقطاع أولاً عن الأكل مدة محددة ثم يتناول الصائم أطعمة خاصة بالصوم .

فالصوم الكبير مثلاً يجب أنه تكون فترة الانقطاع فيه إلى الغروب ومثله صوم برامون الميلاد والغطاس إلى آخر النهار أيضاً . وصوم الميلاد وصوم الرسل إلى الساعة الثالثة بعد الظهر ومثلهما صومي يوم الأربعاء والجمعة . وصوم يونان الانقطاع فيه عن الأكل إلى آخر النهار . وصوم العذراء لابد من فترة الانقطاع فيه أيضاً شأن الأصوام السابق ذكرها .

وإذا أراد أحد أن يزيد فترة الانقطاع في الأصوام أو ينقص منها فليس له أن يفعل ذلك إلا بعد الرجوع إلى أب الاعتراف ليرى ما يتفق وحالة الصائم الروحية والجسدية أيضاً .

وهنالك بعض المؤمنين الذين يرفضون على أنفسهم أصواماً خاصة غير أصوام الكنيسة المحددة لظروف خاصة بهم ، هؤلاء أيضاً لا يجوز لهم أن يفعلوا هذا إلا بعد الرجوع إلى أب الاعتراف وإعطائهم الحل بالصوم .

 

14 الصوم والتقشف

علينا أن نجعل رغبات الجسد أمور ثانوية، ونهتم بالأولى بإشباع أرواحنا وتحصيل حاجياتها كما يقول المخلص ” اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم ” ( مت 6 : 33 ) .            

الصوم والتقشف هما بلا شك علاجان ناجحان لمداواة الطمع والشرهة . والتاريخ مملوء بأمثال هؤلاء الأفاضل الذين زهدوا في العالم وتقشفوا في أمور الجسد فزادت فضيلتهم وخلدوا لأنفسهم في أحسن الذكرى . فأيليا النبي صام أربعين يوماً ولما اختبأ عند نهر كريث كان يعتمد على الخبز واللحم اللذين كان الغراب يحضرهما أليه ، ويوحنا المعمدان يضرب أعظم مثل في العفة لأنه لم يكن ألا وبر الإبل ومنطقة من جلد على حقوبه ، ولم يأكل إلا جراداً وعسلاً برياً ( مر 1 ) وربنا يسوع المسيح وتلاميذه رضوا بما كان يقدم لهم من طعام وما تحصلوا عليه من لباس دون أن يشكو أو يتذمروا حتى أنه  له المجد أوصى تلاميذه قائلاً ” لا تقتنوا ذهباً ولا فضة ولا نحاساً في مناطقكم ولا مزوداً للطريق ولا ثوبين ولا أحذية ولا عصا ” ( مت 10 : 9   10 ) .

 

15 الصوم ليس تحكماً من الله فينا. بل هو نافع لنا

الصوم عندنا جميعاً فضيلة نتقرب بها ألي الله ، وهي مقررة في الكتب المقدسة منذ القديم ، منذ أن خلق الله الإنسان فهي أول وصية أوصى الله الإنسان بها ، فقد جاء في سفر التكوين ، أول أسفار الكتاب المقدس ، ” وأخذ الرب الإله آدم وجعله في جنه عدن ليفلحها ويحرسها ، وأوصى الرب الإله آدم قائلاً : من جميع شجرة الجنة تأكل . وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها ، فإنك يوم تأكل منها موتاً تموت ” ( التكوين 2 : 15  17 ) .

وتتابعت بعد ذلك الأوامر الإلهية بممارسة الصوم في مناسبات متعددة ، منها مناسبة نزول الشريعة على يد النبي موسى ، والأنبياء اللاحقين ومنهم إيليا وإليشع ، وأشعياء ، وارميا ، وحزقيال ، و دانيال ، وأيوب ، ويونان وغيرهم ، ثم جاء السيد المسيح له المجد ومارس الصوم . وأمر به ومارسه تلاميذه الحواريون وأمرا به إلى اليوم .

على انه ينبغي أن نقرر هنا أن الله أمر بالصوم للإنسان لخير الإنسان ، فالله خالقنا وربنا لا يأمرنا بالصوم ليتحكم فينا ، ولا لمجرد امتحان طاعتنا له ، ولكنه له المجد يأمرنا ويوصينا دائماً بما هو نافع لنا ، ومفيد لحياتنا ومسيرتنا في الدنيا ، ولحياتنا آلاتية .

 

16 خطورة الرفاع

لقد أدركت الآن خطورة بدعة الرفاع . إنها بداية سيئة للصوم فيها نتعلق بشهواتنا ولا نرتضى بتركها ، نرضى أجسادنا فنفقد السيطرة على أرواحنا ، نضمن الهزيمة ، نقيد انطلاق الروح ، نبدأ في طريق السقوط ، ننسى الله ، ونرتبط بقيود الشر . إنها تقترن بالشهوة ، والشهوة إذا حبلت تلد خطية ، والخطية إذا كملت تنتج موتاً ( يع 1 : 15 ) . وقد يؤدى الشره وشهوة الطعام إلى هذا الموت في خطوات قاسية بعد أن يحطم الإنسان . تعالى نسمع القديس يوحنا الدرجي . ماذا يقول ؟! 

فتح شيطان شراهة البطن فمه وقال : إن أبني البكر هو خادم الزنا ، وأخوه هو قساوه القلب وثالثهم كثرة النوم والتلذذ بالفراش ، أما بناتي فهن الثرثرة والنكتة وحب التزين أما آخر أولادي فهو قطع الرجاء .               

وهذا هو ما نخشى الوصول أليه ، وأن نقطع رجاءنا في المسيح لكن ماذا ننتظر إذا كنا نبدأ الجهاد بالخطية مع الإصرار على ارتكابها فكيف نستطيع أن نكمل حسناً . خير لك إذا تناولت ما تشتهيه يوم الرفاع أن تؤجل صومك لتبدأه بدون شهوة من أن تبدأه على هذا الصورة لأنك في بدايته ستسقط وقد تفقط الرجاء .

 

17 على صورته ومثاله

إذا كان الله قد خلقنا على صورته ومثاله فهو يرسم لنا صورة الحياة على صورة أقانيمه ومثالها فكما أن الله واحد مثلث الأقانيم هكذا جعل تعبيرات حياتنا المخلوقة في صورته ثلاث أيضاً هي الصداقة والصلاة والصوم فالصدقة تمثل إحسان الأب وعطفه ، والصلاة تمثل ثقة الابن الذي يطلب من أبيه ، والصوم في حميته وتنقيته وتطهيره للروح والجسد يمثل الروح القدس المجدد المقدس والمطهر للإنسان .

18 سلاح في وجه الشيطان

وللصوم فوائد كثيرة جداً فهو السلاح الذي يمكننا أن نرفعه في وجه الشيطان ونغلب به الخطية ” وأما هذا الجنس فلا يخرج إلا بالصلاة والصوم ” ( مت 17 : 21 ) وهو الذي يرفع غضب الله عن الناس ويمحو خطاياهم ، والدليل على ذلك أن أهل مدينة نينوى لما تابوا وصلوا وصاموا رفع الله قصاصة عنهم ( يو 3 ) وأخاب الملك لما صام وبكى كان كلام الرب إلى ايليا ” هل رأيت كيف أتضع آخاب أمامي فمن أجل أنه قد أتضع أمامي لا أجلب الشر في أيامه ” ( 1 مل 21 : 29 ) ولقد مارسه القديسون حينما كانوا يطلبون إرشاد الله كما فعل عزرا لما رغب أن يطلب من الله طريقاً مستقيماً ( عز 8 : 21 ) وكما فعل الرسل حينما أزمعوا على إرسال بولس وبرنابا ( أع 13 : 1  3 ) .

وفضلاً عن ذلك فإن الصوم يرقي عواطفنا ويسموا بأخلاقنا ويعلمنا الرحمة بالفقراء والمساكين .

 

19 التخلص من خطية الرفاع

إذا أردت أن تتخلص من الخطية الرفاع على وجه الخصوص ومن أي خطية أخرى على وجه العموم .. فعليك أن تنظر هل سبق أن سقطت في هذه الخطية ؟! إنه بداية الانتصار تكون حينما تقرر صادقاً أن آخر مرة لارتكبها هي المرة التي مضت .. ذلك أننا نحب الخطية ونتلذذ بها فنقول لأنفسنا قبل السقوط : هذه هي آخر مرة أصنع فيها هذا العمل لأودع الشر إلي غير رجعة .. وبعد السقوط قد أصارع بين الرغبة في التخلص من الخطية وبين التلذذ بها فأوفق توفيقاً خاطئاً بقولي : ” ستكون المرة الأخيرة هي المرة القادمة ” وهذه المرة لن تأتي أبداً لأنها تتجدد من ذاتها ، كن جاداً في المعاملة ذاتك وقرر أن آخر مرة هي التي مضت .          

أما إذا كنت تريد ألا تسقط في الخطية لم ترتكبها بعد فإن المبدأ الأساس هو أن تجعل في ذهنك ألا تسقط فيها المرة الأولى ذلك أن المرة الأولى في الخطية يصعب أن تكون هي المرة الأخيرة . فما دمت محافظاً علي عدم السقوط للمرة الأولى فأنك توفر على نفسك عناء الجهاد بعد السقوط ، والجهاد قبل السقوط أروع منه بعده .

 

20 الصوم سلاح نال به القديسين إكليل النصر

وذلك لأنه أثناء الصوم يكون العقل مستعداً أن يحتمل أشد الضربات وأسوا الحوادث دون أن يهتز كما أنه بالصوم يخلص الإنسان من الخطية والتجارب التي تواجهه في الحياة مع الصلاة أيضاً كما علمنا السيد المسيح له المجد بأن الصوم والصلاة يهزمان أعظم قوة في العالم ( الشيطان ) .

والصوم لازم بل وضروري للجميع دون استثناء ما عدا الأحوال المذكورة سابقاً ، لأنه يعيننا بنعمة الله على محاربة الخطايا الكامنة في أعضائنا والمحيطة بنا في كل حين ، ويساعد النفس على ضبط الشهوات الجسدية والعواطف الروحية حيث تسمو النفس بأجنحة الأيمان والمحبة نحو الله المصدر الوحيد لحياتها وأفراحها الطاهرة .

والأدلة والشهادات على وجوب الصوم كثيرة وصادقة ، فالكتاب المقدس يؤيد الصوم ويأمر به في مواضع وآيات عدة منها ما جاء في سفر أعمال الرسل ( أع 13 : 2 ) وبينما هم (الرسل ) يخدمون الرب ويصومون قال الروح القدس افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما أليه ، وذلك وفقاً لقول السيد المسيح له المجد .. حين يرفع العريس عنهم يعنى صعود المسيح فحينئذ يصومون ( مت 9 : 15 )  .

وقد أجب السيد المسيح الصوم على تابعيه إذ قال : ” ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين ” أما الأنبياء والرسل وسائر القديسين والأتقياء المشهود لهم فقد اهتموا بالصوم اهتماما فائقاً واعتبروه من أوائل الواجبات المقدسة عليهم لجلب رضى الله عنهم ، وإنقاذهم من الشدائد والضيقات التي كانت تعترضهم في حياتهم .  

فموسى صام مرتين ، كل مرة أربعين يوماً وأربعين ليلة ، و إيليا صام أربعين يوماً وأربعين ليلة ، و أستير صامت هي وشعبها ثلاثة أيام بلياليهما فأنقذها الله وشعبها من مكيدة هامان ورد شره على رأسه ، و دانيال صام ثلاثة أسابيع لم يأكل فيها لحماً ولا طعاماً ، فأعلن له الرب أسرارا عظيمة تتعلق بشعبة ودولاً أخرى . وأهل نينوى لما غضب الله عليهم لشرهم وأراد أن يمحوهم ويقلب مدينتهم ، صاموا وتذللوا فرحمهم الله ورفع غضبه عنهم ، وكرنيليوس القائد الروماني صام أربعة أيام فظهر له الملاك الرب الجليل وأرشده إلي القديس بطرس الرسول ، الذي علمه طريق الله وعمده ومن معه .

وكثيرون جداً الذين صاموا وكان الصوم المقرون بالصلاة نجاة وخلاصاً لهم .

أما القديسون والآباء الروحيون فكان الصوم حياتهم ورياضتهم الدائمة ، وإن عاشوه من حياتهم في الصوم أكثر بكثير من الأيام التي كسروا فيها أصوامهم لسبب من الأسباب كالأعياد أو بسبب مرض أو بسبب آخر .بل أن بعض القديسين ما أكلوا طعاماً والشمس ظاهرة طيلة أيام تعبدهم .

 

21 امتلاء البطن يقوى الشهوات

إن البطن الممتلئة تصحبها قوة جبارة للشهوة ، وإن سبقت البطنة الشهوة للأكل ذاته فإن ثورات شهوات الجسد وغرائزه الحيوانية تتلو ذلك . يقول القديس فيلوكسينوس ( ثقل الأطعمة تقهر الأعضاء بالشهوات ) ، ويقول القديس يوحنا الدرجي ( أعط بطنك طعاماً مشبعاً سريع الهضم لكيما بالشبع تزيل عنها شهوة الحنجرة وبسرعة هضمه تهرب من الحرارة المتولدة من دسمه ) .

وينصح الآباء القديسون بأنه إن اصطحب الأكل شهوة فيه وتلذذ فخير لنا ألا نأكل . يقول القديس فيلوكسينوس ( كل شئ يوضع على المائدة وترى أن عينك تشتهيه لا تأكله . فإذا عودت بطنك على هذا فإنها لا تطلب منك إلا احتياجها فقط ) ، بل أن هذا القديس يفضل عدم الصوم على الصوم مع وجود الشهوة للأكل وما الرفاع سوى دليل لا يقبل الشك أو التأويل على وجود هذه الشهوة . تعالوا نسمعه يقول ( الأوفق لك أن تأكل اللحم بلا شهوة من أن تأكل عدساً بشهوة . أننا لا نلام على الأطعمة ، ولكن إذا أكل الإنسان بشهوة فسواء أكل لحماً أو بقلاً فهو يلام ، لأن الشهوة هي التي أكلت كليهما ) . 

ويحذرنا القديس يوحنا الدرجي قائلاً : ( أحذر من خداع البطن إذ تكون مملوءة وتصيح أنها جائعة . أحذر من النهم الذي يشير عليك أن تبتلع كل شئ دفعة واحدة  واعلم أن الشبع من الطعام هو أبو الزنا ) .

وإن الاستعداد بتناول الطعام الشهي قبل الصوم أو انتصاره بعد الصوم مباشرة بشهوة إنما هو من طبيعة الذين أصابهم النهم . يقول القديس يوحنا الدرجى ( يفرح اليهودي بسبته ، ويسر الراهب النهم البطن بيوم السبت والأحد ، يجلس ويحسب يوم العيد قبل وقته ويستعد للأطعمة قبل أوانها ) .

أليس الأجدر بنا أن نبدأ صومنا بحرب ضد الشهوات فنتخلص من كل ما يعوقنا في الصراع معها بدلاً من أن نترك لها المجال لتهزمنا .

 

22 فضائل طبيعية

أن الصوم والصدقة والصلاة فضائل طبيعية وتعبيرات طبيعية للحياة الدينية لا كواجبات فقط نحن مكلفون بأدائها بل نندفع إليها بدافع من أنفسنا .

لذلك حين تكلم السيد المسيح عن هذه الفضائل الثلاث وندد بإساءة استعمالها استعمالا فاسداً حين اتخذها الفريسيون مظهراً للتدين والقداسة رياء ونفاقاً ، كان في حملته عليهم كالفنان الذي يغار على كل ما هو طبيعي ويهتم بأن يبقيه حافظاً لجماله بعيداً عن كل تصنع يذهب برونقه الطبيعي .

 

23 الصوم و الإاردة

لما كان الإنسان بالصوم يمتنع عن الطعام بإرادته ، إطاعة للشريعة ، ولخير الأبدي والزمني ، فالصوم من هذه الجهة وسيلة مناسبة لترويض الإرادة ، والإرادة في الإنسان العاقل هي أهم طاقاته وقدراته . وكما يقول بعض الحكماء ( ميزان الرجل إرادته ، فإذا أردت أن تكون رجلاً هذب إرادتك ) . 

الصوم إذن هو فضيلة إنسانية عظيمة لأنه بها يروض الإنسان إرادته ، ويقويها ويدربها ، فيشكم بها الإنسان ميوله ونزعاته وشهواته الهادمة لكيانه الإنساني بوصفه الكائن العاقل الحر والمريد والمسئول . 

ولما كان الطعام هو غريزة الحياة الأولى فالصوم هو اللجام الذي يمسك به الإنسان ، فيحكم به نفسه بفضل إرادته القوية والتي تقوى بالصوم ، فيقوى به الإنسان على الإمساك عن غرائزه الأخرى التي إذا أطلق لها العنان بغير ضابط ، فإنها تدمره ، وتخرج به عن إنسانيته العاقلة الرشيدة .  

لذلك كان الصوم هو شكيمة الإنسان العاقل ، يدفع به عنه كل ما يضر حياته ، روحاً ونفساً وبدناً ، ويشكم به كل عادة ضارة ، ومن بينها التدخين والخمور والمخدرات وما إليها من عادات . وبذلك يصبح سيد أمره وصانع مصيره . ويقول الكتاب المقدس ” وضابط روحه أفضل ممن يأخذ المدن ” ( سفر الأمثال 16 : 32 ) . 

24 في إرضاء الجسد فقد السيطرة على الروح

لماذا أوجه إمكانياتي وقدراتي واهتماماتي اهتماما جسدانياً وأتناس أن الجسد يشتهى ضد الروح والروح ضد الجسد ، وهذان يقاوم أحدهما الآخر ( غل 5 : 17 )  والجسد إن أكرمناه سلبنا القدرة والسيطرة . يقول أحد القديسين : ( جميع الحيوانات والوحوش إذا أنت أكرمتها فإنها لا تؤذيك أو تسئ إليك ، إلا الجسد وحده فإن أنت أحسنت إليه قابل حسناتك بالإساءة إليك ) .

ونتيجة لإعطاء الجسد كل حاجته فإننا نفقد السيطرة حتى على توجيه الأفكار . يقول القديس يوحنا كاسيان : حينما تمتلئ المعدة بكل أنواع الطعام ، فذلك يولد بذور الفسق ، والعقل حينما يخفق بثقل الطعام لا يقدر على توجيه الأفكار والسيطرة عليها . فليس السكر من الخمر وحدة هو الذي يذهب بالعقل ، لكن الإسراف في كل أنواع المآكل يضعفه ، ويجعله متردداً ويسلبه كل قوته في التأمل النقي . إن علة خراب سدوم وفسقها لم يكن بالخمر بل بالامتلاء من الخبز . أسمع الرب يوبخ أورشليم بالنبي قائلاً ” لأنه كيف أخطأت أختك سدوم إلا أنها شبعت من خبزها بكثرة ” ( مز 16 : 49 ) . وبسبب الشبع من الخبز اشتعلوا بشهوة الجسد الجامحة ، فأحرقوا بعدل الله بنار وكبريت من السماء فإن كانت زيادة الخبز وحده أدت إلى مثل هذا السقوط السريع في الخطية عن طريق رذيلة الشبع ، فماذا تقول عن أولئك الذين لهم أجسام قوية ، ويأكلون اللحم، ويشربون الخمر بإفراط ، غير مكتفين بما تتطلبه حاجة أجسادهم بل ما تمليه عليهم رغبة العقل الملحة .        

ويقول القديس فيلوكسينوس ( بمقدار ما يتلطف الجسد بالنسك يكون له الشركة مع روحانيته وحسبما يثقل الجسد بالمآكل يجذب النفس إلى ثقله ويربط أجنحة أفكارها . أما إن نقص ثقله يخضع لإرادة نفسه بسهولة وتجذبه النفس إلي جميع ما تختاره ).

 

25 يربط كلبه بالنهار ويطلقه بالليل

إن هناك نوعاً من الصوم الباطل حين يصوم الناس ويمتنعون عن الأطعمة الشهية والدسمة ولكنهم لا يمتنعون عن شراب الخمر حال صومهم ويغضبون على من يقدم لهم ” المزه ” من اللحوم أو البيض ويقولون في حماسة : إحنا صايمين ! هات لنا طعمية وترمس صيامي ! وما أدرى هؤلاء المخدوعون أن طريقة الصوم الخاصة بالامتناع عن أكل اللحوم والدسم مأخوذة عن دانيال النبي الذي قال : أنا دانيال كنت نائحاً ثلاثة أسابيع أيام لم آكل طعاماً شهياً ولم يدخل في فمي لحم ولا خمر ولم أدهن حتى نمت ثلاثة أسابيع أيام(دا10: 2و3 ).

فمن هذه الطريقة نعلم أن الخمر ممنوع وألادهان بالروائح العطرية ممنوع أيضاً كالاطائب واللحوم وكل شئ شهي .

إن الذين يصومون ويسكرون يصومون بلا قصد أو غاية وهم أشبه بحيوانات بشرية يربطهم أصحابهم أو الوسط الذين يعيشون فيه أو العوائد والعادات لأنهم لو كانوا يعرفون معني الصوم أنه ضبط وإذلال النفس لما تجرعوا كأساً واحداً من الخمر فإنها قادرة على أن تكسر لجام الصوم وتقطع كل رباط فيندفع الجسد جامحاً .

إن هؤلاء الصائمين مثلهم مثل من يربط كلبه في النهار ويطلقه بالليل فهل مثل هذا يكون صوماً يختاره الله !

 

26 تدليل الجسد

هناك أشخاص يدللون أجسادهم ويلذذونها أكثر من ألازم لأنهم يعافون أنواعاً كثيرة من الأطعمة ولا يقبلون إلا أصنافاً مخصوصة مجهزة وفق مرامهم .

على أن الكثير من تلك الأطعمة التي تكون أكثر شهية من غيرها تكون في الغالب عسرة الهضم وأسرع  عفونة وأقل تغذية من غيرها . فخير للإنسان أن يدرب نفسه على تناول كل الأطعمة التي تتناولها يده وعلى عدم البطر وإظهار الكبرياء حتى في الآكل مادام ذلك لا يعود بالضرر على صحته . 

إننا إذا وافقنا الجسد ومنعنا عنه كل ما يبدى امتعاضاً منه ولم نعطه إلا ما لذ وطاب ربما يأتي يوم يسأم فيه الجسد أنواعاً كثيرة ويفقد شهيته لأطعمة عديدة كان يحبها .. وبذلك تصبح حياة المرء سلسلة من التعب . 

قيل أن مبشراً مسيحياً من الهنود جاع يوماً من الأيام ولم يجد إلا بضع أوراق أشجار جافة فأخذها و آكلها فكانت لذيذة في فمه . وهناك القديسون والبسطاء من الناس يأكلون أتفه الأطعمة وأبسطها ومع ذلك يشعرون باللذة والسرور . فما أحسن أن نتشبه بهم ولا نهتم كثيراً بترفيه الجسد حتى نتمم شريعة المسيح القائلة ” كلوا مما يقدم لكم ” ( لو 4 : 8 ) .

 

27 الشبع والسقوط

نأكل ونشبع كثيراً يوم الرفاع لنبدأ صومنا بالسقوط لأن الشبع كثيراً ما يكون سبباً لذلك . يقول الأب يوحنا : ( تأكد تماماً أن العدو يهاجم القلب عن طريق امتلاء البطن ) ويقول القديس يوحنا الدرجى : ( أعرف أن الشيطان في أكثر أوقاتنا يجلس في معدتنا ويجعل الإنسان لا يشبع ولو أكل مصر كلها وشرب نيلها . ثم ينصرف هذا الشيطان البطني ويرسل لنا الشيطان الزنا بعد أن يخبره بما جرى قائلاً له : أدركه فإن بطنه موثق فلن تتعب معه كثيراً .. فإذا ما وافانا تبسم وربط بالنوم أيدينا وأرجلنا وعمل كل ما شاء فينا ) .

أسمع القديس مار أسحق حينما يقول : ( في بطن امتلاء بالأطعمة لن يوجد مكان لمعرفة أسرار الله ) ويبين القديس غريغوريوس رئيس متوحدين قبرص أثر امتلاء البطن على العقل فيقول : ( الكبير البطن أحلامه الرديئة تكدر قلبه ، والذي ينقص من أكله يصير في كل وقت منتبهاً لأنه مثلما يظلم الجو من الضباب ، كذلك يظلم العقل إذا امتلأت البطن من المأكولات ) ويقول القديس يوحنا الدرجى : ( إن كنت عاهدت المسيح أن تسلك الطريق الضيقة فضيق بطنك أولاً لأن البطن العريض الواسع يستحيل أن يسير في طريق الرب الضيقة ) .

 

28 الشبع ينسينا الله

إذا شبعنا وامتلأت بطوننا يكون نسياننا لله أسهل . وهذا هو صوت الرب على فم هوشع النبي : ” أنا عرفتك في البرية في أرض العطش . لما رعوا شبعوا . شبعوا وارتفعت قلوبهم لذلك نسوني ” ( هو 3 : 5 6 ) .. فإن اجتزنا بدعة الرفاع بدأنا الصوم بنسيان الله .. أي صوم هذا ؟! .

 

29 الارتباط بقيود الشر

ويحدثنا الرب في إشعياء ( 58 : 6 ) : أليس هذا صوماً أختاره . حل قيود الشر . فك عقد النير وإطلاق المسحوقين أحراراً وقطع كل نير وماذا يعني الرفاع سوى أنه ارتباط بقيود الشر . لهذا فإذا أردت أن أصوم صوماً مقدساً منتجاً فلأبدأ من الأول حيث أعمل على حل قيود الشر .

 

30 الصوم بين الروح والجسد

الصوم هو العامل المشترك يفيد الروح والجسد فلا يضر الجسد حين تستفيد منه الروح ، ولا يضر الروح يستفيد منه الجسد في حالة العلاج .

ففي الوقت الذي ينقي الصوم الجسم من أمراضه الفتاكة وسمومه إذا اتجه الإنسان به إلي اتجاهاً دينياً روحياً ساعده على الشفاء من أمراض الروح وسموم الخطية الفتاكة .

وفي الوقت الذي يشعر الجسم بخفة ونشاط في حال الصوم هكذا تشعر الروح في حالة الصوم بخفة ونشاط وكأنها اكتسبت جناحين جديدين للتحليق بهما في عالم الأرواح . كالماء الذي من طبيعة أن ينساب إلى الأسفل إذا ما حصر وضغط فإنه يرتفع إلى الأعالي رغم طبيعته ، وأوتار الموسيقى لا تبدى الأصوات الشجية المطربة إلا إذا شدها الموسيقى .

وفى الوقت الذي يحرق فيه الصوم الأخلاط وزبالة الفضلات التي في الجسم تراه إذا ما اتجه به الإنسان اتجاهاً روحياً دينياً فإنه يفعل فعله أيضاً في العقل والنفس يصقلها ويشففها فيكونان قابلين لنفاذ النور الإلهي فيها وقبول الإلهامات ويطبع الله فيها حكمته .

                               

31 الصوم والغريزة

ما من شك في أن غريزة الحياة الأولى هي غريزة الطعام . إنها أول غرائز الإنسان وأقواها، و أعظمها شأناً . و هي تبدو واضحة في سلوكه منذ طفولته المبكرة ، أي منذ الرضاعة حتى الموت . إنها أعظم و أقوى من غريزة الجنس ، و من الغريزة الوالدية ، ومن غريزة التملك، ومن غريزة الغضب والقتال والدفاع عن النفس و غير ذلك من غرائز .

والإنسان بالصوم يحكم نفسه ، و يملك زمام أمره ، لأنه بالصوم يمنع نفسه عن الطعام وهو غريزة الحياة الأولى صيانة لنفسه و جسده ، و توقياً من أضرار الطعام إذا أخذ منه الإنسان أكثر من احتياجه الطبيعي و المعروف أن أكثر أمراض الإنسان إضراراً بجسمه وذهنه و روحه تأتيه من الطعام ، فقد يلتهم الإنسان من الطعام ما يضره كماً أو كيفاً مدفوعاً بشهواته القوية لإشباعها .

 

32 الرفاع تقييد انطلاق الروح

إن الصوم ليس إذلالاً للجسد و إنما هو إنعاش للروح . و هو ليس تقييداً أو سجناً للحواس و إنما انطلاقا بها بغير معطل نحو التأمل في الله ، هو ليس كبتاً لشهوة الطعام بل هو تخلية إرادية عن هذه الشهوة للإعلاء بها نحو حب الله . و هو ليس أمراً متعلقاً بالجسد بقدر ما هو متعلق بالروح و الملكوت .

(إن ريشة الطائر الملقاة علي الأرض ، إذا كانت غير ملتصقة بشئ ترفعها أدنى ريح عن وجه الأرض . و بعكس ذلك إذا كانت مبتلة او ملتصقة بالقاذورات فإن الريح لا تقدر علي رفعها . هكذا الإنسان المنهمك في اللذات المرتبط بقيود و شهوات جسدية لا يستطيع أن يرتفع بروحه و أفكاره إلي السمائيات بفعل تعزيات النعمة التي تفتقده من حين إلي حين ، من أجل هذا حذرنا ربنا يسوع قائلاً : فاحترزوا لأنفسكم لئلا تثقل قلوبكم في خمار و سكر وهموم الحياة . 

و ماذا يعني الرفاع و ما هي شهوة الأكل .. إنه القاذورات التي تلتصق بالريشة فتعوق إنطلاقها . و هكذا نرى كيف أن الرفاع يقيد انطلاق الروح في الصوم .

 

33 الترب والنار والبللور

أن ظلمة الخطية والجهالة المرتبطة بالقلب والميول الدنسه والشهوات الدنيئة النجسة من شأنها أن تحجب عن النفس النور الإلهي كما أنها تمنع هذا النور عن الظهور فلا يسطع نور النفس إلي العالم الخارجي فنقصر عن تأدية رسالتها التي كلفها بها السيد المسيح عندما قال له المجد : ” فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات ” ( مت 5 : 16 ) .  

فالصوم كفيل بصقل النفس مع عمل النعمة ، فكما أن المواد الترابية الكثيفة إذا ما وضعت في أتون النار القوية مدة تنصهر وتتلطف متبلورة وتصبح قابلة لأن تتكسر فيها أشعة الشمس . وتنفذ فيها فتبدى ألوانا جميلة . هكذا مواد جسمنا الترابي الكثيف إذا مادمنا عليه بنار الصوم الذي يحدث احتراقا في الأخلاط أصبح شفافاً لطيفاً يتلاقى علي نوع ما مع لطافه النفس وشفافيتها . وهذا التلاقي في الطاقة ضروري للعبادة وتقديم الذبائح كما يقول الرسول : فأطلب إليكم أيها الاخوة برافة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية ( رو 12 : 1 ) لأنه ما أحلى وأقدس العبادة التي تتقدم بروح طاهرة وأيادي طاهرة وركب طاهرة مرتعشة بالصوم كما يقول الرسول : فأريد أن يصلى الرجال في كل مكان رافعين أيادي طاهرة . ( 1 تى 2 : 8 ) .   

            

34 الطعام الروحي والطعام الجسدي

طعام الجسد من الأمور الفانية التي يتم عليها قول الكتاب ” الأطعمة للجوف والجوف للأطعمة والرب سيبيد هذا وتلك ” ( 1 كو 6 : 13 ) . وأما غذاء النفس الحقيقي فهو الطعام الأبقى الذي يكسبنا حياة وقوة ” وليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله “(مت4: 4) ” أعلموا لا للطعام البائد بل للطعام الباقي للحياة الأبدية “(يو6: 27).

وكما عرفنا ما يجب على المؤمن أن يتعاطاه أو يمتنع عنه من الأطعمة كذلك يجب أن نعرف أن الماء هو الشراب اللازم لحياة الجسد ، أما الذين يشربون الخمور وغيرها من السموم فيكفيهم قول الحكيم ” الخمور مستهزئة . المسكر عجاج والذي يترنح بهما فليس بحكيم ” ( أم 20 : 1 ) . وسيأتي الكلام عن هذا بالتفصيل بمشيئة الله . ( أنظر كتابنا : فلنحذر قليل من الخمر ) .

 

35 الطعام النباتي في الصوم ليس من اختراع البشر

إن الصوم على الطريقة المسلمة لنا بالتقليد الرسولي ليست من اختراع بشرى ، ولا من استحسان إنساني أو عن فلسفة أرضية أو علم عقلاني بل هو رسم إلهي ، أستنه الله نفسه خالقنا ، وجري العمل به عند جميع القديسين . كما ذكرت الكتب المقدسة ، وكما دونه آباء الكنيسة في مصنفاتهم ، وكما سجلته قوانين الكنيسة عبر كل العصور .

نعم إن الله هو الذي جعل نباتات الأرض طعامنا ، بل إنه خلق النبات من اجل الإنسان ، ولذلك خلق النبات من قبل أن يخلق الإنسان لكي يهيئ للإنسان طعامه ، ويعد له غذاءه قبل أن يخلقه بزمن طويل فقد خلق الله الإنسان في الحقبة السادسة من الخليقة ، بينما خلق النبات في الحقبة الثالثة أي اليوم الثالث ” وقال الله لتنبت الأرض نباتاً عشباً وبقلاً ويبزر بزراً وشجر مثمر يخرج ثمراً بحسب صنفه برزة في الأرض ، فكان كذلك ، فأخرجت الأرض نباتاً عشباً . وبقلاً يبزر بزراً بحسب صنفه. ورأى الله ذلك أنه حسن . وكان مساء وكان صباح يوماً ثالثاً ( سفر التكوين 1 : 11 13 ) .

وعندما خلق الله الإنسان في اليوم السادس . أو في الحقبة السادسة من الخليقة ، عين له النباتات من بقل وشجر لتكوين طعاماً له . ” فخلق الله الإنسان على صورته  ذكراً وأنثي خلقهم . وباركهم الله وقال لهم ” أنموا وأكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها ، وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض . وقال الله : ” ها قد أعطيتكم كل بقل يبزر بزراً على وجه الأرض كلها وكل شجرة فيه ثمر شجر يبزر بزراً ، يكون لكم طعاماً . ورأى الله كل ما صنعه فإذا هو أحسن جداً .. وكان مساء وكان صباح يوماً سادساً ” ( تك 1 : 27 31 ) .   

وإذن فمنذ خلق الله آدم وحواء . عين للإنسان طعامه ، وحدده بأنه من ” نباتات الأرض ” لاحظ قوله ” إني قد أعطيتكم كل بقل ” على وجه الأرض كلها ، و” كل شجر يكون لكم طعاماً ” . ولئن أعطي الله للإنسان السلطان على سمك البحر وطير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض . ولكنه عند بدء الخليقة لم يمنح الإنسان أن يأكل من سمك البحر أو من طير السماء أو من الحيوان الداب على الأرض ، وإنما جعل طعامه من ” نباتات الأرض ” فقط ، ” من البقول ومن ثمار الأشجار ” .

وقد أعاد الرب مرة ومرات نفس المعني . مؤكداً أنه منح الإنسان أن يكون طعامه من ثمار الأرض من ” بقول وفاكهة ” يقول الوحي الإلهي : وأوصي الرب الآلة آدم قائلاً ” من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً ” ( تك 2 : 16 ) . و ” تأكل عشب الأرض ” ( تك 3 : 18 ) . 

ويقول سفر المزامير عن الله ” المنبت عشباً للبهائم ، وخضرة لخدمة الإنسان ، لإخراج خبز من الأرض ، وخمر تفرح قلب الإنسان لا لماع وجهه أكثر من الزيت ، وخبز يسند قلب الإنسان ” ( مز 103 : 14 15 ) . وأنظر أيضاً ( مزمور 135 : 25 ) .

ولم يسمح الله للإنسان أن يأكل اللحوم إلا بعد مرور بضعة مئات أو آلاف من السنين أو على التحديد أن الله أجاز للإنسان آكل اللحوم بعد الطوفان كما جاء ذلك في الإصحاح التاسع من سفر التكوين .

“وبارك الله نوح وبنية. وقال لهم، أنموا واكثروا واملأوا الأرض كل دأبه حية تكون لكم طعاماً. كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع. غير أن لحماً بحياته دمه لا تأكلوه”(تك9: 1 4).

وجاء بعد ذلك قول موسى النبي ” من كل ما تشتهي نفسك تذبح وتأكل لحماً في جميع أبوابك حسب بركة الرب إلهك التي أعطاك ” ( تث 12 : 15 ) .

” إذا وسع الرب إلهك تخومك كما كلمك ، وقلت أكل لحماً . لأن نفسك تشتهي أن تأكل لحماً . فمن كل ما تشتهي نفسك تأكل لحماً .. فأذبح من بقرك وغنمك التي أعطاك الرب كما أوصيتك وكل في أبوابك من كل ما اشتهت نفسك . لكن أحترز أن لا تأكل النفس مع اللحم . لا تأكله . على الأرض تسفكه كالماء . لا تأكله لكي يكون لك ولأولادك من بعدك خير ” ( تث 12 : 2 25 و 14 : 4 11 ) .

إذن فأكل النباتات هو الطعام الأساسي للإنسان الذي أمر الله به الإنسان منذ بدء الخليقة . ولم يسمح الله للإنسان بآكل اللحوم إلا بعد الطوفان . لذلك كان طبيعياً أن يعود الإنسان في أثناء الأصوام إلي حياة الإنسان الأول . أي يحيا نباتياً ، فينقطع عن الطعام انقطاعا تاماً فترة لا تقل عن تسع ساعات . ثم يأكل بعدها طعاماً من نباتات الأرض .

ثانياً : إن الامتناع عن اللحوم والاكتفاء بأكل النباتات هي الطريقة التي أتبعها القديسون في أصوامهم فدانيال النبي يقول ” أنا دانيال كنت نائحاً ثلاث أسابيع أيام ، لم أكل طعاماً شهياً ، ولم يدخل فمي لحم ولا خمر ” ( دا 10 : 2 3 ) .

وكان دانيال والفتية الثلاثة حنانيا وميشائيل وعرزيا ” شدرخ وميشخ وعبدنغو ” يمتنعون عن آكل اللحوم ويكتفون بالقطانى ( د1 1 : 5  12 ، 16 ) .

والقطانى حبوب تطبخ كالعدس والفول واللوبيا والحمص .

كذلك النبي حزقيال . أمره الرب أن يتناول في صومه حبوباً وبقولاً . قال له الرب ” وخذ أنت لنفسك قمحاً ، وشعيراً ، وفولاً، وعدساً ، ودخناً ، وكرسنه وضعها في وعاء واحد ، وأصنعها لنفسك خبزاً ، كعدد الأيام .. ثلاثة مائة وتسعين يوماً تأكله . وطعامك الذي تآكله يكون بالوزن .. من وقت إلى وقت تأكله . وتشرب الماء بالكيل . من وقت تشربه وتأكل كعكاً من الشعير ” ( حز 4 : 9 12 ) . 

ولا شك أن القمح والشعير والفول والعدس حبوب معروفة لدى جميع الناس .

أما الدخن . فهو أيضاً نوع من الحبوب يتغذى به الطيور . كما يتغذى به الإنسان ، ومازال يستخدم بكثرة في غربي آسيا وجنوبها . وفي الشمال أفريقيا وفي جنوب أوربا ، وكذلك “الكرسنه ” هي أيضا نوع من الحبوب ، شبيهة بالعدس ، تزرع كثيراً في فلسطين وسوريا .

لقد كان في تحديد الطعام النباتي حكمة من الله لصالح الإنسان ، لأن الطعام النباتي كما يقول العلم والطب أنفع للإنسان وصحته وحيويته من الطعام الحيواني . وهذا ما تراه واضحاً من تطور عمر الإنسان على وجه الأرض حيث كان الإنسان النباتي يظل على الأرض ما يزيد على تسعمائة عام . ” فكانت كل الأيام آدم التي عاشها تسعمائة وثلاثين سنة ومات وكانت كل الأيام متوشالح تسعمائة وتسعا وستين سنة ومات ” ( تك 5 : 5 27 ) .

أما عندما عرف الإنسان أكل اللحوم ، نجد أن عمره بدأ يتناقص كثيراً وقلت مدة بقائه على الأرض ، فضلاً عما يسببه أكل للإنسان من متاعب صحية ، واعتباره مثيراً للغرائز الحيوانية ، كما يتضح من حديث يعقوب أبو الآباء مع فرعون عندما جاء يعقوب إلى الأرض مصر ليرى أبنه يوسف هناك” فقال فرعون ليعقوب كم هي أيام سني حياتك. فقال يعقوب لفرعون: أيام سني غربتي مائة وثلاثين سنة قليلة وردية .. ولم تبلغ إلي أيام سني حياة آبائي في أيام غربتهم ” ( تك47: 8  9 ).

و قد رقد يعقوب بعد ان عاش في أرض مصر سبعة عشرة سنة فكانت أيام يعقوب سنو حياته مائة و سبعاً و أربعين سنة (تك47: 28). كما مات يوسف و هو ابن مائة و عشر سنين (تك50: 26).

 

36- تغيير نوع الطعام

رب قائل يقول و لماذا أغير أنواع الطعام التي آكلها فيمكنني أن أنقطع عن الطعام لفترة ثم آكل ما أشاء ” إن تغيير نوع الطعام في مدة الصوم يعتبر أمراً جوهرياً ، يساعد علي تهذيب النفس و الحد من توقد شهواتها . و لا يمكن ان نصوم صوماً انقطاعياً و بعد ذلك نتناول ما لذ و طاب من الأطعمة . إن ذلك يجعل الإنسان أكثر شراهة للطعام ، و يصبح في هذه الحالة أشبه بالأسود التي كانوا يعمدون إلي تجويعها فترة ، حتى تكون أكثر شراهة و افتراساً حينما يلقون إليها إنساناً مطلوب إعدامه ، علي نحو ما كانوا يعملون في العصور الأولى “.

 

37- لا تخف : لا نطالبك بما لا تستطيع

تعالي بنا نتساءل : من أين الشرور و المتاعب ؟ أليست بسبب الشيطان الذي يزرع الأوجاع فينا .. و لكن هل تعرف كيف تقاوم هذا الجنس ؟ أسمع القديس يوحنا فم الذهب في حديثه عن الصوم و هو يجيبك قائلاً ” إن هذا الجنس لا يخرج إلا بالصلاة و الصوم . فإن كان يطرد محاربي خلاصنا و يخيف أعداء حياتنا فمن الواجب علينا أن نتوق إليه و نحبه و لا نرهبه بل يجب أن نخشى بالحقيقة زيادة المأكل و الشره و السكر و التخمة لا الصوم المقدس ” .

لا تخف فإننا لا نطالبك أن تصنع ما لا في إمكانك و لكن لو هدأت لنفسك قليلاً فسوف تسمع صوت الله الساكن في داخلك يلومك لأنك لا تصنع ما هو في إمكانك .. فإن كنت تستطيع أن تصوم و لا تفعل فهذه خطية . يقول صاحب كتاب بستان الروح ” إن الله يدعونا أن نذلل الجسد لا أن نقتله ، و لذلك فالكنيسة تصرح بعدم الانقطاع في الصوم بالنسبة للعجائز والرضعان و المرضعات و الحبالى و المرأة النافس و المرضى و الضعفاء و صغار السن ، و الذين لهم حالات خاصة تمنعهم ، فيأكلون لا ترفهاً و لكن عن ضرورة .

 

38- الصوم بين الرياضيين و الأطباء و الفلاسفة

هذه نصيحة أحد الرياضيين بمصر ، لا ننصح بالإكثار من اللحم ، و لو أنك اقتصرت علي تناوله مرتين في الأسبوع لأحسنت صنعاً . و يحسن الامتناع عنه في العشاء ، و لكننا ننصح بالإكثار من تناول الفاكهة و الخضراوات لأنها تجعل الأمعاء في حالة لين و بذلك تخرج منه جميع فضلاته . و لاحظ ألا تأكل فوق طاقتك ، بل قم عن المائدة و انت تشتهي الطعام إلي حد ما فإن الإفراط يجهد المعدة .

و قد قال الدكتور أ. س سلمون في كتابه ” الصحة و الحياة ” ” إن أول ما دون في تاريخ الوجود عن غذاء الإنسان أنه كان يأكل الفاكهة و الحبوب و البقل . و الخالق العظيم هو الذي خلق الإنسان و هو العالم بتركيب جسمه و الغذاء المناسب له . و هناك أدلة كثيرة علي ان جسم الإنسان يمكن ان يحفظ في أحسن حالات الصحة و القوة بتناول الغذاء المؤلف من الفاكهة و الحبوب و لقد رأي الفلاسفة و النباتيون هذا الرأي من قديم الزمان فقد قال أفلاطون ” إن المدينة الصحية هي التي يتغذى أهلها بالأثمار و البقول أو الحبوب فقط و لا يأكلون لحماً ” ، و قال سنيكا الفيلسوف : ” إن النباتات طعام كاف للمعدة التي تطرح إليها الأغذية الثمينة ” . و البوذيون يرحمون أكل اللحوم و يدعون النباتات ” شوذن موتو ” أي الطعام الذي ينمى الحياة الروحية . و أوضح باستور العلامة سرعة فساد اللحم و تعفنها و قال ” قارن مثلاً بين فساد تفاحة أو رغيف خبز و بين فساد عصفور أو سمكة أو قطعة من اللحم ، تر الفرق أجلى وضوح و يحصل هذا داخل الجسم أيضاً ” . و قد جاء عن العلامة فيثاغورث أنه اخذ دباً و منع عنه اللحوم و أطعمه النباتات فأصبح أليفاً وديعاً .

و من الغريب أن الذين يظنون ان الصوم يضر بالصحة و ينصرفون عن الصوم كثيراً ما يصابون بالأمراض لأن الصوم لا يسبب المرض و لا يعمل علي اختلال نظام الجسم بل الانهماك في المآكل الكثيرة هو الذي يفعل هذا . و مع ترفع أبناء هذا الجيل عن الصوم نرى الشباب منهم يشكو من أمراض و أسقام كثيرة بينما الشيوخ و الكبار في السن الذين لم يكسروا ناموس الصوم مطلقاً يتمتعون بالصحة الكاملة و السلامة التامة .

 

39- صوم اللسان

أما صوم اللسان هو منعه عن الكلام الذي لا يليق ، لأنك بكلامك تتبرر و بكلامك تدان ، واللسان هو الذي يعلن عما في القلب و العقل و إذا لم يكن مهذباً و يتكلم بأدب و حرص فإنه يبدد ما في النفس من حكم و أسرار ، و يسبب المشاكل الكثيرة التي تدعو إلي الفرقة و الخصام و المحاكمات و أحياناً كثيرة إلي جرائم القتل والتخريب ، و لذلك يقول الرسول يعقوب : ” عن كان أحد لا يعثر في الكلام فذاك رجل كامل قادر ان يلجم كل الجسد أيضاً . هوذا الخيل نضع اللجم في أفواهها لكي تطيعنا فندير جسمها كله . هوذا السف أيضاً و هي عظيمة بهذا المقدار و تسوقها رياح عاصفة تديرها دفة صغيرة جداً إلي حيثما شاء قصد المدبر . هكذا اللسان أيضاً هو عضو صغير و يفتخر متعظماً . هو ذا نار قليلة أي وقود تحرق . فاللسان نار عالم الأثم ، هكذا جعل في أعضائنا اللسان الذي يدنس الجسم كله ، ويضرم دائرة الكون و يضرم من جهنم ، لأن كل طبع للوحوش و الطيور و الزحافات والبحريات يذلل ، و قد تذلل للطبع البشري ، و أما اللسان فلا يستطيع أحد من الناس أن يذلله ، و هو شر لا يضبط مملوء سماً مميتاً . به  نبارك الله الآب و به نلعن الناس الذي قد تكونوا علي شبه الله .

و قال الأنبا أرسانيوس : ” كثيراً ما تكلمت و ندمت و لكن عن السكوت قط ما ندمت ” . و قال الشيخ الروحاني : ” إن كان لسانك متعوداً علي كثرة الكلام فقلبك منطفئ من حركات الروح المنيرة ” .

فإذا كانت كثرة الكلام تحرم الإنسان من حركات روح الله ، فكم بالأحرى الكلام المؤذي الضار كالشتيمة و النميمة و الوشاية و الكلام القبيح و كلام الدنس و الحلف و اللعن والتجديف … الخ كم يضر هذا الكلام قائله . و الله سوف يحرق هذا اللسان السليط الشرير في النار التي لا تطفأ و يأكله الدود الذي لا يموت .

و السيد المسيح له المجد قال : ” كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس سوف يعطون عنها حساباً في يوم الدين ” ، لذا كان من أخطر الأمور صون اللسان و تصويمه بقوة و شدة حتى يكون القلب طاهراً و العقل صاحياً واعياً و الحياة كلها في سلام و محبة مع الجميع .

 

40- قلب و لسان

قيل أن سيداً أرسل عبده ليشتري له أحسن ما في السوق فأشترى له قلباً و لساناً لحيوان ما، ثم أرسله ثانياً ليشتري له أردأ ما يجد أمام ، فأشترى له قلباً و لساناً كذلك ، فتعجب سيده و سأله عن غرضه من ذلك فقال له الخادم : ” إن اللسان و القلب إذا أصلحهما الإنسان صارا أحسن ما في الخليقة ، وبالعكس إذا ما أفسدهما صار أفسد ما فيها ” ولذا قيل ” المرء بأصغريه قلبه ولسانه ” فما أجمل القلب و اللسان والصائمان عن الخطية .

وإذا استعبدنا ألسنتنا وحكمنا عليها وضبطناها دفعنا عن أنفسنا شروراً كثيرة ، وجلبنا إليها الخير ، و بالعكس إذا سلمنا قيادتنا للسان لا نستطيع أن نأمن غوائه ، فكلمة واحدة يلفظها اللسان قد تشقى صاحبها ، وكلمة واحدة قد تسعده ، بكلمة واحدة يحيا الإنسان ، وبكلمة واحدة يموت كما يقول السيد المسيح له المجد” بكلامك تتبرر وبكلامك تدان “(مت12: 27).

 

41 لغتك تظهرك

كان الذين يكتبون أسم الله الجليل من اليهود يخصصون له قلماً مقدساً ، وهكذا يجب على كل مؤمن يلفظ باسمه المعظم في صلواته أو عبادته أن يخصص له لسانه ولا ينطق به كلمة رديئة ، وإذا كنا لا نستطيع أن نهتف للملك أو للحاكم ولأعدائها باللسان الواحد وفي الوقت الواحد ، فمن المعقول أيضاً أنه لا يمكننا أن نهتف باسم الله واسم الشيطان ، وننطق بعبارات ترضي الله وبعبارات ترضي إبليس ، ولذلك يجب على المسيحي أن يصوم لسانه عن الشر .

إذا رغبت أن تحكم على إنسان لتعرف إن كان صالحاً أو شريراً يمكنك أن تحكم عليه من أقواله كما يقول السيد المسيح “الإنسان الصالح من الكنز الصالح في القلب يخرج الصالحات والإنسان الشرير من الكنز الشرير يخرج الشرور”( مت 12: 35 ) .

فإذا أردت أن تظهر للناس نقاء قلبك و صفاء عقلك وسعة حكمتك وفهمك فعليك أن تنطق أمامهم بما هو صالح ونافع لأنه من فضلة القلب يتكلم الفم ” ( مت 12 : 34 ) . وكما أن الثوب يكشف عما تحته ، والشجرة تخرج أثماراً من جنسها هكذا كلام الناس يكشف بواطنهم وأخلاقهم وصفاتهم ” من ثمارهم تعرفونهم ” ( مت 7 : 16 ) فلا تقل إني صائم صوماً حقيقياً ولسانك غير صائم .

والمسيحي يجب أن يكون ممتازاً عن أهل العالم في الكلام وفي كل شئ . فالذي يشترك مع الناس في إلقاء الكلمات جزافاً دون أن يمتحنها ويزنها لا يعد مسيحياً . لأن الرسول يوصي تيمثاؤس تلميذه قائلاً ” كن قدوة للمؤمنين في الكلام وفي التصرف وفي المحبة في الروح في الإيمان في الطهارة ” ( 1 تي 4 : 12 ) .

وها هو بطرس الرسول لما ظهر أمام اليهود خاطبته الجارية قائلة ” أنت أيضاً منهم فلغتك تظهرك ” ( مت 26 : 73 ) .

والحقيقة أن كل إنسان يعرف بلغته ولسانه .. هل كلامنا يظهر للناس أننا مسيحيون أم لا ؟! وهل لساننا ممتاز عن ألسنة أهل العالم ؟! وهل كل من سمع كلامنا حتى وغن لم يكون يعرفنا يحكم بمسيحيتنا الحقة أو لا ؟! إن الأسف يملأ القلب و الدمع يفيض من العين كلما نشاهد أبناء المسيح يشاركون أبناء بليعال ، و أولاد النور يتشبهون بأولاد الظلام ، حتى أنه أصبح من الصعب أن نجد بين المسيحيين العديدين مسيحياً حقيقياً يمجد الله بلسانه وبكلامه . فهل لديك الاستعداد أن تجعل لسانك صائماً .

يشبه يعقوب الرسول عصيان اللسان وضرره بعدة تشبيهات نذكر منها أنه :

نار :

لأن الضرر الذي يحدثه اللسان سريع الانتشار ، ويصعب التحكم فيه كالنار إذا وقعت جذوة منها في ساحة كبيرة تحرقها ” لأن الفجور يحرق كالنار تأكل الشوك و الحسك وتشعل غاب الوعر ” ( إش 9 : 18 ) .

عالم الإثم :

لأن اللسان هو العضو الذي يحاول أن يجعل الشر جذاباً . وبه يجعل المر حلواً . والرديء حسناً . ويحاول الإنسان تبعاً لذلك أن يبرر ذاته ، ويدافع عن سلوكه السيئ .

وباللسان يمكن أن يحرض ويغوى الآخرين لعمل الشر . ما هو الذي يقود الإنسان بعيداً عن الله ، و يعصي أوامره و تعاليمه .

شر لا يضبط :

لا يستطيع أحد من الناس أن يضبط لسانه ، ولا يستطيع أن يضبط لسان غيره ، لا بالترهيب ولا بالترغيب إلا بمعونة الله و عمل النعمة في حياته .

مملوء سماً مميتاً :

من سموم اللسان التشكيك في الله وعدله ومحبته ، وبث الغيرة والحسد و الغش و التكبر و الخداع والكذب ” سنوا ألسنتهم كحية حمة الأفعوان تحت شفاههم ” ( مز 140 : 3 ) .

ويقول بولس الرسول ” حنجرتهم قبر مفتوح . بألسنتهم قد مكروا . سم الأصلال تحت شفاههم . وفمهم مملوء لعنة ومرارة ” ( رو 3 : 13 14 ) .

وعلى الرغم من أنه لا يوجد إنسان بدون خطيئة لأنه ” ليس باراً ولا واحداً .. الجميع راغوا وفسدوا معاً ، ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد ” ( رو 3 : 10 12 ) إلا أن يعقوب الرسول يرى أنه يمكن للرجل أن يلجم اللسان وكل الجسد أيضاً . لأن اللسان هو عضو صغير بالنسبة للجسم يمكن ضبطه و توجيهه التوجيه السليم الذي يؤدي إلى ضبط الجسد كله وتوجيهه كما يحق لإنجيل المسيح طالما كان الإنسان خاضعاً لعمل النعمة ، وكل قوة خاضعة لعقله وضميره . مثله في ذلك مثل لجام الخيل الذي وهو آلة صغيرة تستطيع أن تخضع الخيل مع شدة قوتها .

ومثل دفة السفينة التي على الرغم من صغرها ، تمكن ربان السفينة أن يوجه السفينة الكبيرة في وقت العاصفة وهياج البحر إلى حيث يشاء الربان وإلى بر الأمان

من أقوال سليمان الحكيم عن اللسان في سفر الأمثال نذكر الآتي : ” الجواب اللين يصرف الغضب و الكلام الموجع يهيج السخط ، لسان الحكماء يحسن المعرفة وفم الجهال ينبع حماقة .. هدوء اللسان شجرة حياة وأعوجاجه سحق في الروح ” ( أمثال 15 : 1 4 ) ” المتقلب اللسان يقع في السوء ” ( أمثال 17 : 3 ) ” فم الجهال مهلكة له وشفتاه شرك لنفسه ” ( أمثال 18 : 7 ) . ” اللسان اللين يكسر العظام ” ( أمثال 25 : 15 ) . فهل لسان صائم ؟ لغتك تطهرك .

 

42 الموت و الحياة في يد اللسان ( أم 18 : 21 )

يقوم اللسان بوظيفتي التذوق و النطق . و اللسان الرديء كثيراً ما يستعبد صاحبه ويجلب عليه الشرور و الويلات في تأدية هاتين الوظيفتين . فقد يخضع المرء لحاسة ذوقه فيصير شهوانياً شرها لا يهمه إلا التلذذ بأنواع الطعام والشراب ، حتى يصبح سخرية بين الناس . على أن الله يعلم الشرهين و المغرمين بالمآكل و المشارب أن يقنعوا بكل ما تصل إليه أيديهم ويأكلون ما يقدم لهم .

أما الخطر الأعظم الذي يجلبه علينا اللسان فيأتي عن النطق . و النطق هو ميزة جليلة يمتاز بها الإنسان عن الحيوان ، فيه يتباحث ويتفاهم فتسهل أمامه أمور الحياة ، وتمهد سبل الراحة و السعادة وقد كان الناس في يوم من الأيام يتكلمون بلغة واحدة ، ولكن لما كثرت خطاياهم بلبل الله ألسنتهم فأصبح لكل قبيلة لسانها ، ولكل أمه لغتها .

إن اللسان هيئ لقضاء المصالح وإسعاد الحياة ، ولكن الإنسان طالما يخطئ التصرف فعوض أن يجعل لسانه وسيلة إسعاده وهنائه يجعله وسيلة لتعاسته وشقائه .

فالواقع أن يمكنه أن يجعل لسانه ينبوعاً عذباً يخرج الماء الحلو ، ولا ينطق إلا بالصالحات ، أو يجعله ينبوعاً ملحاً لا يخرج إلا المرارة ولا يتكلم إلا بما هو معوج و رديء وقبيح .

وليس من المعقول أن يحاول المرء في جعل لسانه الواحد ينطق بالكلام الحسن الرديء كما يقول الرسول نفسه ” ألعل ينبوعاً ينبع من نفس عين واحدة العذب و المر . هل تقدر يا أخوتي تينة أن تصنع زيتوناً أو كرمة تيناً ؟ ولا كذلك ينبوع يصنع ماء ملحاً وعذباً ” ( يع 3 : 11 12 ) ..

إن الكثيرين من الذين يصلون ويتكلمون بالأمور الدينية لا يستنكفون من النطق بالأمور البطالة أيضاً . فبينما تراهم في أوقات العبادة يصلون مع المصلين ، ويرنمون مع المرنيمين ، ويقرأون مع القارئين تسمعهم بعدها يمزحون ويشتمون ويحلفون ويجدفون .

فما أتعس صاحب اللسان الدنس لأن صلاته وترنيمه وعظاته وتبشيره وكل عباداته لا يقبلها الله ، بل يعتبرها إهانة لأسمه القدوس كما يقول الكتاب ” ذبيحة الأشرار مكرهة للرب ” ( أم 15 : 8 ) ، وكما يقول أيضاً ” إن كان أحد فيكم يظن أنه دين وهو ليس يلجم لسانه فديانة هذا باطلة ” ( يع 1 : 26 ) .

احفظ لسانك وأجعله صائماً وقل دائما للرب ” ضع يا رب حارساً على فمي ” فلا تكن صائماً عن اللحم وأنت تأجل لحوم البشر بلسانك . ليتك تصغي لما يقوله الأباء عن اللسان حتى تدرك خطورته وتعمل على جعل لساناً صائماً .

يقول الأنبا إشعياء :

” إذا قمت في موقف الأبرار أحتفظ بلسانك ليسكن في قلبك خوف الله لأن من ينفلت من لسانه فهو ما زال عبداً . أما من غلب لسانه فقد صار حراً ” .

” لتكن ألسنتنا ملازمة ذكر الله و العدل لكي نخلص من الكذب ، فأحفظ نفسك من الكذب فإنه يطرد من الإنسان خوف الله”.

” عود لسانك دائماً أن يقول .. أغفر لي ، فيأتيك الأتضاع ” .

يقول الأنبا موسى الأسود :

” كمثل بيت لا باب له ولا أقفال ، يدخل إليه كل من يقصده ، كذلك الإنسان الذي لا يضبط لسانه من يهتم بضبط لسانه يدل على أنه محب للفضيلة ، وعدم ضبط اللسان يدل على أن داخل صاحبه خال من أي عمل صالح ، أحفظ لسانك ليسكن في قلبك خوف الله ” .

يقول الأنبا أنطونيوس :

” لا تكن مقاتلاً باللسان ، أجعل كل أحد يباركك . و الرب يسوع المسيح يعينك على العمل بمرضاته ، إياك و الكذب فهو يطرد خوف الله من الإنسان ” .

يقول ما أسحق : ” الذي يعود لسانه يقول الصالحات على الأخيار و الأشرار ، يملك السلام في قلبه سريعاً ” .

” الذي يصوم عن الغذاء . ولا يصوم قلبه عن الحنق و الحقد ، ولسانه ينطق بالأباطيل فصومه باطل ، لأن صوم اللسان أخير من صوم الفم ، وصوم القلب أخير من الاثنين ” .

يقول الشيخ الروحاني : ” فم العفيف يتكلم الطيبات ولذذ صاحبه ويفرح سامعه ” فم الطاهر النفس يتكلم كل ساعة على خالقه ، ومن يسمعه يخرج ويقتدي به ، فم الجاهل يفيض مرارة ويقتل صاحبه ” .

” من يلجم لسانه فلن يسلب كنزه منه إلى الأبد ” .

 

يقول الأنبا أغاثون : ” إذا كان الإنسان الداخلي متيقظاً ، فهو يستطيع أن يحرس الإنسان الخارجي أيضاً ، فلنحرص على اللسان بكل وسيلة في استطاعتنا ” .

قال الأنبا أوغريس : ” أختم باب أتعابك بالصمت لئلا يقلعه اللسان ، فينتج المجد الفارغ الذي ينزعها ” .

وقال أنبا بيمن : ” علم قلبك ما تقوله بلسانك من العلم ” .

 

43 الصوم و الزوجين وماسورة المدفع

إن جعل الجسد بالصوم متوافقاً مع طهارة الروح وشفافيتها يجعل العبادة طاهرة و الصلاة قوية نفاذة ولا شئ يعيقها لأن كل نزاع يحدث انقساماً وكل انقسام يحدث تشتيتاً للقوى فتعاق الصلاة كما يقول القديس بطرس الرسول : كذلك أيها الرجال كونوا سالكين بحسب الفطنة مع الإناء النسائي كالأضعف معطين إياهن كرامة كالوارثات أيضا معكم نعمة الحياة لكي لا تعاق صلواتكم . ( 11 بط 3 : 7 ـ 8 ) .

فكما أن التنازع بين الزوجين المتلاصقين و عدم التوافق بينهما يعيق الصلوات هكذا عدم توافق الجسد مع الروح في الشفافية و اللطافة يعيق الصلوات فلا تنفذ إلي الأعالي ، فكما أن حصر القذيفة في ماسورة المدفع الضيق يعطيها قوة الانطلاق و الفتك هكذا حصر الصلوات في جسم مضيق عليه بالصوم يعطيهما قوة النفاذ و الانطلاق و التأثير الفعال .

 

44- الصوم و الشكر و طلب البركة

أن الله وحده هو الذي يبارك في طعامنا و يضمن لنا السلامة و الصحة . و لهذا يجب علينا أن نلتمس بركته قبل الأكل و بعده . في إعداد طعامنا و تهيئة شرابنا ، في عمل كل شيء يخص حياتنا الروحية و الجسدية .

أن السيد المسيح لم يكن يتناول الطعام إلا بعد ما ينظر إلي السماء و يشكر و يبارك و قد ترك لنا مثالا لكي ننسج علي منواله . فالإنسان الذي يلتمس بركة الله يذكر نفسه بافتقارها و عجزها عن سد حاجاتها ، و يشعرها بأن ما تملكه من النعم ليس سوى منة من منن الله ، فتزول عنها الكبرياء و تشعر بأنها محتاجة إليه في كل شيء فيشعر بالسعادة في صومه و في طعامه البسيط .

أن الاعتماد علي الله في أمر الطعام الجسدي يبارك الطعام كما تباركت الخمس خبزات و السمكتان ، و يحفظنا من الأضرار عديدة كما حفظت إليشع و من معه من الطعام المسموم ( 2 مل 4 : 41 ) ، و زيادة علي ذلك فإنه يزيد المؤمن إيمانا و ثقة بالله و يجعل الصوم مصدر فرح و سعادة .

فأتكل علي الله ايها المؤمن و قدم له شكرك لأنه هيأ لك أطعمة و أشربة تأكلها و تشربها ، و التمس معونته و بركته لكي يعولك .

لقد عال الإسرائيليين أربعين سنة في برية طور سيناء ، هكذا مهما كنت فقيرا و معتازا و مهما كان دخلك ضئيلا هو قادر أن يبارك لك غلاتك و طعامك و شرابك لأن ” الأشبال احتاجت و جاعت و أما طالبوا الرب فلم يعوزهم شيء من الخير ” ( مز 34 : 10 ) .

 

45- اعتراض للتخلص من الصوم

يقوم الصوم بأمرين : أولهما الانقطاع عن الطعام مدة معينة ، و الثاني تعاطي أطعمة خالية من الدسم ، و لا شك في أن الأمرين يساعدان كثيرا علي تقوية الروح و الارتقاء بالنفس و قمع الجسد بعكس الذين يعيشون للأكل و الشرب و اللهو فإن الجسد يجد فرصاً كثيرة للإيقاع بهم .

إن البعض لكي يتخلصوا من عبء الصوم يعترضون بأن الصوم ضار بالصحة منهك للقوى ولكننا نجيبهم بأن الانقطاع عن الطعام لمدة معينة في أوقات معينة يعمل على إراحة المعدة فتؤدي عملها بنشاط بعد أن تكون قد استرخت فترة من النهار ، وكذلك تناول الأطعمة الخالية من الدسم لا يضر الجسم مطلقاً بل بالعكس يزيده صحة وقوة ، إن الإنسان الأول لم ينهمك في أكل اللحوم وارتشاف المسكرات ولم يتناول أنواع الأطعمة العديدة التي يتفنن الناس في تهيئتها اليوم ، وكان معظم طعامه من البقول و الفواكه و الخضر وكان أطول عمراً وأقوى جسماً منه الآن . بل لم يكن من السهل أن يصاب بالأمراض كما يصاب في هذه الأيام ويكفي أن الأطباء الآن ينصحون بتناول الخضر و الفواكه ويقررون أنها تفيد الجسم فائدة عظيمة ، بل إنهم أحياناً يعالجون بعض الأمراض بالصوم فيصرخون للمريض بتناول النباتات ويمنعونه عن تناول اللحم ؟

 

46 الصوم وأخوة الرب

لنجلب رضى الله وبركاته فنشرك الجائعين في طعامنا وشرابنا ، فليس من العدل أن نأكل وهم جياع أو أن نلبس وهم عراة، ولذلك يقول أيوب ” إن كنت منعت المساكين عن مرادهم وأفنيت عيني الأرملة أو أكلت لقمتي وحدي فما أكل منها اليتيم .. إن كنت رأيت هالكاً لعدم اللبس أو فقير بلا كسوة . إن لم تباركني حقواه وقد أستدفأ بجزة غنمي .. قلتسقط عضدي من كتفي ولتنكسر ذراعي من قصبتها ” ( أي 31 : 16 22 ) .

السيد المسيح أوضح لنا أن كل صدقة نتصدق بها على الفقراء كأنها تقدم لشخصه الأقدس . وفي يوم الدينونة سوف يقول للمحسنين ” تعالوا إلي يا مباركي أبي رثوا الملك المعد لكم منذ تأسيس العالم لأني جعت فأطعمتموني ، عطشت فسقيتموني كنت غريباً فآويتموني ، عريانا فكسوتموني ، مريضاً فزرتموني .. بما أنكم فعلتم أحد أخوتي هؤلاء الأصاغر فبي قد فعلتم ” ( مز 25 : 34 ـ 4 ) .

 

47- العناكب و النحل و صوم المرئيين

قيل أن هناك نوعا يشبه النحل في دخول البساتين و قطف الندي من علي أكمام الزهور يدعي العناكب و لكنه يخالفه في تحويل هذا الندى لأنه بينما يحوله  النحل إلي شهد ترى هذه العناكب تحوله إلي حمى لاذعة سامة .

هكذا أيضاً نجد بين الصائمين نوعاً يشبه العناكب إذ بينما الصائمون الأتقياء يقطفون بالصوم ندى السماوات و يفعلون العجائب و المعجزات ترى قوماً يتخذون من الصوم وسيلة للتفاخر و المباهاة و طلب المجد الباطل و هؤلاء هم المراؤون الذين يفسدون كل ما كان صالحاً الذين أشار إليهم السيد المسيح حين قال : ” و متى صمتم فلا تكونوا عابثين كالمرائين فإنهم يغيرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين الحق أقول لكم أنهم قد استوفوا أجرهم . و أما أنت فمتى صمت فأدهن رأسك و أغسل وجهك لكي لا تظهر للناس صائماً بل لأبيك الذي في الخفاء .. فأبوك الذي في الخفاء يجازيك علانية”(مت6: 1618).

و قد ضرب السيد المسيح له المجد مثلاً أوضح فيه ما كان عليه الفريسيون من المفاخرة بأصوامهم حتى أمام الله فقال : إنسانان صعدا إلي الهيكل ليصليا واحد فريسي و الآخر عشار ، أما الفريسي فوقف يصلي في نفسه هكذا ” اللهم أشكرك أني لست مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة ولا مثل هذا العشار. أصوم مرتين في الأسبوع”(لو18: 10-12).

فقد جعل الصوم للإذلال و الحزن حيث كان الوجه يعفر بالتراب و الرماد الذي يجلس عليه الصائم في مسوحه و الشعر منكوشاً و النظرات عابثة فجاء الفريسيون يتنكرون تحت هذه الأثواب و يخفون أفكار الكبرياء و الغرور و يحجبون الوقاحة و القلوب المتحجرة فجعلوا من إنكار الذات مظهر للبر الذاتي و القداسة المزيفة و غرضهم من هذا أن يجتذبوا إليهم التفات الناس للحصول علي شهرة التعبد و التفوق علي معاصريهم ليحصلوا علي كسب من التقوى و قد نجحوا في هذا نجاحاً عظيماً حتى قال السيد المسيح ” أنهم قد أستوفوا أجرهم ” إذ أعتبرهم الناس البسطاء أنهم اقدس من غيرهم و احترموهم مع أن صومهم المتفاخر لا يستحق أي احترام .

 

48- تجاهل الصوم

و بعكس الذين يقعون في خطية الرفاع فإن هناك أناس لا يحسبون لذلك اليوم حساباً .. لأن كل أيامهم رفاع إنهم يتلذذون بالأكل ما شاءوا ، و ليس للصوم أي اعتبار عندهم .

و لست أعنى هاهنا أولئك الذين يقاومون الصوم كعقيدة فهناك من الكتابات الكثير التي تظهر بوضوح صحة عقيدة الصوم لكنيستنا القبطية الأرثوذكسية . و لكني أعجب من أولئك الذين لا يصومون لنهم يستهترون بالصوم و كأنه ليس لهم .. و هؤلاء المحجمون عن الصوم يفوتهم الكثير من نتائجه العظيمة .. و إني لمتيقن أنهم لو جربوه لترقبوا أيام الصوم بشوق عظيم .

كذلك هناك الذين لا يصومون إلا لفترة محدودة في آخر الصوم لا لعدم قدرتهم و لكن لتعودهم علي هذا . و هل يعني التعود علي شئ أن نستمر فيه حتى و لو كان خطأ .. يقول القديس يوحنا فم الذهب : ” لا تيأس من خطاياك يا أخي و اعلم ان أشر الخطأ هو أن يثبت الإنسان في الخطأ . و أمر من الواقعة هو أن يبقى صاحبها طريحاً ساقطاً بدون أن ينهض. أي زمان هو أوفق للتوبة من زمن الصوم “.

و لسنا في حاجة إلا لأن نظهر بعض نواحي جمال الصوم حتى إذا ما أحسسنا به أقدمنا عليه ، و لكن نريد أن نضع في أذهاننا انه مهما كثر الحديث بدون أن نختبره في حياتنا لا يمكننا أن نتذوق هذه البركات التي فيه و التي منها ما لا يمكن أن يوصف بقلم .

 

49- الصوم فضيلة فلا تخف منه

هل تحب اقتناء الفضائل يا أخي .. أم انك ما زلت لا تهتم بهذا .. ليتك الآن تحب ان تكون إنساناً فاضلاً . أسمع ما يقوله القديس يوحنا فم الذهب ” إن الصوم بالحقيقة فضيلة عظيمة و لا يوجد غيرها ما يساويها”.

و لا تظن أن الصوم مخيف و مرهب لأننا لا نطالبك بالتطرف و إلا كان صومك غير مقبول . و لكن زيادة الرغبة في الصوم هي التي تنمو من ذاتها كنمو طبيعي . عليك فقط ان تبدأ بالصوم يقول القديس أيرنيموس في رسالة إلي ديمترياس العذراء: ” و مهما يكن من أمر فإني لا أضع عليك كفرض أو كنوع الإلزام أي أصوام أشد صرامة و امتناع غير مألوف عن الطعام فغن مثل هذه الممارسات سرعان ما تضعف بينة الجسم الضعيفة و تسبب أمراضاً جسيمة ، قبل أن تضع أساساً لحياة مقدسة “.

و مما يؤثر علي الفلاسفة ان الفضائل وسائط و أن كل تطرف هو من طبيعة الرذيلة .. عليك الا تواصل الصوم إلي أن يبدأ قلبك يشعر بالخفقان ، و يسقط تنفسك ، و تشعر بالحاجة إلي أحد يساعدك أو آخرين يحملونك لا ، فبينما تكبحين رغبات الجسد ، عليك أن تحتفظي بقدر كاف من القوة البدنية لقراءة الأسفار المقدسة ، لترتيل المزامير و الأسهار . فليس الصوم في ذاته فضيلة كاملة ، لكنه أساس يمكن أن تبني عليه فضائل أخرى . إنه خطوة للطريق العالي .

 

50- صوم الأرجل و الأقدام

كان السيد المسيح يسير علي قدميه كما نسير نحن علي أقدامنا ، و لكن شتان ما بين الطرق التي سلكها هو و الطرق التي نسلكها نحن فهو ” كان يجول يصنع خيراً. و يشفي الذي تسلط عليهم إبليس ” (أع 10: 38) . و كان يسير في كل مدينة و قرية يكرز ببشارة الملكوت (مت4: 22) ، كان يتعب ويمشي علي قدميه ليلاً ونهاراً لأجل خلاص البشرية وتبشيرها و شفاء أمراضها . أما نحن فواحسرتاه قد لوثنا أقدامنا بالسلوك في أماكن الضلال .

فويل لك يا نفسي لأنك لم تتخذي لك من حبيبك مثلاً أعلى ، و لم تشابهيه في شئ . سار علي رجليه ليردك إلي حظيرته ، و أنت تسيرين بخطى واسعة لتهربي من الحظيرة إلي الفيافي و القفار ، تعبت قدماه من المسير لأجل خلاصك ، و أنت تتعبين قدميك في التخلص منه و السلوك وراء الشيطان ، رضى ان تسمر رجلاه علي عود الصليب لكي تتحرري أنت من قيود الخطية و أنت تطلقين لقدميك الريح حتى تسيري بعيداً عنه ، و تعملي علي كسري نواميسه و شرائعه .

ليتك تحفظ قدميك عن الشر ، و دربهما علي الصوم عن الرذائل و الذهاب إلي الأماكن التي لا تمجد اسم الله فيكون صومك مقبولاً . في كل طريق تسلمه الله يلاحظك و يراقبك و حدقتاه تلاحظانك تذكر قول أيوب البار : ” بخطواتي استمسكت رجلي و حفظت طريقه و لم أحد ” (أي22: 11).

 

51- في بيوت الخطية

هناك قوم يصومون و ينقطعون عن الأطعمة الشهية و لكنهم لا ينقطعون عن الملذات والشهوات و قد جعل الصوم وسيلة لإذلال النفس و الشهوات وقتاً معيناً من الزمن لنيل أغراض صالحة و شهوات مقدسة ، و لكن هؤلاء يذللون الجسد بالصوم و يدللونه بالشهوات و أصوام كهذه مهازل و سخرية تجمع الشيء و نقيضه .

كان أحد الأباء يعظ و كان يندد علي هذا الصنف من الناس فبعد الوعظ قال له أحدهم بأنه لما كان طائشاً في شبابه و يبيت في بيوت الدعارة عند خليلة له فكانت خليلته الغير مسيحية تضحك منه و تهزا به كلما رأته يشدد عليها أن تأتيه يوم الأربعاء و الجمعة بفطور صائم مثل الفول المدمس و الزيتون و قالت له يوماً : ” ما يضحكني منك يا صاحبي محافظتك علي أصول الصوم و أنت لا تحافظ علي أصول دينك و فضائله ” فخجل من قولها.

 

52- تذهب إلي هذه الأماكن

من المدهش ان البعض ممن يذهبون إلي الكنائس و أماكن العبادة لا يتحاشون الذهاب إلي أماكن اللهو و الإثم . و بنفس القدمين اللتين تطآن بيت الله يطئون أماكن الخطية ، علي أن الله لا يقبلهم و هو يوبخهم دائماً ” من طلب هذا من أيديكم أن تدوسوا دوري ” (أش1: 12)

لقد نادي الرب موسى قائلاً ” أخلع حذائك من رجليك لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة ” (خر3 : 5) و هو ما زال يتحدى بهذا النداء الذين يطرقون باب كنيسته وقدمهم قد لوثتها الخطايا ، و لهذا يقول الحكيم ” أحفظ قدمك حين تذهب إلي بيت الله” (جا5: 1).

و إذا كان لا يمكننا أن ندخل بيت الله بأقدام دنسة فبالأولى لا يمكننا أن نطأ بها أرض الموعد ، لأنه ليس من المعقول أن القدم التي تقطع الطرق المعوجة ذهاباً و أياباً تستحق أن تدخل السماء الطاهرة النقية المعدة للقديسين .

فأمامك الطرق الطاهرة و المأمونة كثيرة يمكنك أن تسلكها ، أمامك طرق الحلال فسيحة تستطيع أن تحصل منها علي رزقك و رزق أولادك . فلا تتعب قدميك الليل و النهار في تحصيل المجد العالمي و الأموال الطائلة سواء كان ذلك بسلوك طرق الحلال أو الحرام . أمامك . المتنزهات و الحدائق و الحقول تستطيع ان تتنزه فيها عوض الذهاب إلي أماكن اللهو و الخلاعة، أمامك الكنائس و الجمعيات ، و المكتبات الدينية ، و اجتماعات الوعظ ، و مدارس الحد فأدخلها آمناً مطمئناً ، لكي تقول مع داود ” فرحت بالقائلين لي إلي بيت الرب نذهب ” (مز 122: 1). “طوبي لأناس عزهم بك. طرق بيتك في قلوبهم “(مز84: 5)، أمامك بيوت المرضى و سجون المساجين و مشافي السقماء ودور الحزاني ن و ملاجئ العجزة و أكواخ الفقراء و الأيتام تستطيع أن تزورها لتخفف آلام الساكنين فيها ، و تذكر أنه خير لك ان تذهب إلي أحد هذه الأماكن من أن تؤم دور الملاهي و المجون لأن ” الذهاب إلي بيت النوح خير من الذهاب إلي بيت الوليمة ” (جا 7: 2).

هل تذهب إلي بيت الله بقدمين غير صائمتين هلي تذهب إلي الكنيسة بأقدام ملوثة إنها دعوة لكي تجعل أقدامك صائمة فيتبارك طريق حياتك .

 

53- الله هنا

جاء خاطئ إلي أحد الكهنة ، و أراد الكاهن ان ينصحه و يعظه قال له ” عاهدني علي ان تقول في كل مكان تذهب إليه ((الله هنا)) و تكرر هذا عشر مرات ” فعاهده الخاطئ علي ذلك، و كان كلما طرق باباً من أبواب اللهو أو حل في مكان من أمكنة الإثم التي أعتاد أن يزورها يقول في نفسه ” الله هنا ” عدة مرات ، فيقشعر قلبه و يضطرب فؤاده و يخرج من المكان خائفاً مذعوراً ، و بهذه الطريقة استطاع ان ينجو من الخطية و يتحاشى الذهاب إلي أماكنها ، فما أجدر بنا أن نكرر في كل مكان و في كل بيت و في كل طريق ” الله هنا ” فإن كان وجودنا فيه يرضيه نمكث فيه ، و إن كان يغضبه نهرب منه سريعاً . هناك فرق بين القدم الصائمة و القدم الفاسدة .

لهفي علي أناس لا يسيرون بأقدامهم إلي في الطرق المحرمة فيذهبون بها إلي الخمارات حيث يحتسون كؤوس الخمر و يتجرعون المسكر ، و يطأون بها دور السينما و الملاهي واللعب و الميسر رغبة في مشاهدة مناظر الخلاعة والمجون ، و يسخرونها لكي توصلهم إلي أماكن النجاسة و الفسق ، و يستعملونها في تسلق الجدران للسرقة ، و يرفعونها للضرب و الركل و القتال . ما أشر الأقدام التي لم تعرف الصوم .

إن الذي يطرق طرق الشر سراً يخادع نفسه ، لأنه و عن كان في إمكانه ان يختفي عن أنظار الناس فليس في إمكانه ان يختفي عن العينين اللتين تكشفان الأستار و الحجب ، وتحدقان في كل مكان ، ” أين أذهب من روحك و من وجهك أين أهرب ، إن صعدت إلي السماوات فأنت هناك ، و إن فرشت في الهاوية فها أنت . إن أخذت جناحي الصبح و سكنت في أقاصي البحر فهناك أيضاً تهديني يداك و تمسكني بيمينك ، فقلت إنما الظلمة تغشاني . فالليل يضيء حولي . الظلمة أيضاً لا تظلم لديك و الليل مثل النهار يضئ كالظلمة هكذا النور” (مز 139: 7-12) .

سر في هذه الطرق المستقيمة ، و أما الطرق المعوجة فعرج عنها و انج بحياتك . إياك أن يجذبك إليها صديقك أو شهوتك أو ميولك . و إن وجدت طريق الفاسد واسعة وطريق البر ضيقة و متعبة ، ففضل هذه عن تلك ” ادخلوا من الباب الضيق لأنه واسع الباب و رحب الطريق الذي يؤدي إلي الهلاك و كثيرون هم الذين يدخلون فيه . ما أضيق الباب و أكرب الطريق الذي يؤدي إلي الحياة و قليلون هم الذين يجدونه ” (مت7: 13 14) فسر في هذه الطريق الضيقة لأنها هي الطريق الوحيدة التي توصلك إلي السماء “لا تمل يمنة و لا يسرة. باعد رجلك عن الشر ” (أم 4: 27) باختصار دع رجلك تعرف الطريق إلي الصوم .

 

54- القدم التي لا تصوم تصلب المسيح

جاء في التاريخ المقدس ان القديس بطرس الرسول لما هرب من رومية خوفاً من الصلب ، ظهر له السيد المسيح خارج المدينة ، فلما سأله القديس ” إلي أين أنت ذاهب يا سيدي “؟ أجابه ” لكي أصلب عنك مرة ثانية ” فتأثر القديس و ندم علي هروبه و رجع إلي روما وسلم نفسه للموت ، فما أشد خجل المؤمن حينما يصادفه الله و يواجهه و هو في طريق غير مستقيمة .

فتصور أيها الخاطئ و أنت تسلك في طريق الخطية أن المسيح واقف أمامك ، أرفع عينيك فتشاهده ماثلاً قدامك يحدثك بصوته ، و يشير إليك بيديه .. إنه يتألم كثيراً و يريد ان يعترضك حتى تعود عن طرق الفساد ، و هو يناديك و يسألك كما سأل آدم ” أين أنت ” ؟ فبماذا تريد أن تجيبه و أنت موجود في أماكن الفجور و حانات الخمر و دور الميسر ؟ و إذا سألك ” إلي أين أنت ذاهب ” ؟ هل تستطيع ان تجيبه بأنك ذاهب لسرقة منزل ، و للاشتراك في عمل مؤامرة ، أو لتحقيق غرض دنئ ، إذا كنت تأبى ان يعلم إنسان بأمر من هذه الأمور فخف بالأكثر من أن يراك الله و أنت تفعله .

قدم توبة الآن وجه قدمك في الطريق الصحيح . أفتح لها باب الصوم فتقودك إلي الحياة الأبدية .

 

55- جمال الصوم

هل تريد أن تسمع عن جمال الصوم . هيا ننصت للقديس يوحنا فم الذهب حينما يقول : “وأما الصوم فإنه إذا وجدنا معتقلين يحلنا من الأغلال و القيود و ينجينا من قوى الآلام المفسدة و يقبل بنا نحو الحرية الأولى و الانعتاق الأصلي . و أي برهان لك أعظم من هذا يدلنا علي محبة الصوم لجنسنا . كيف أنه يحارب عنا أعدائنا و ينقذنا من أسرهم و يوصلنا إلي حريتنا الأصلية فبالحقيقة إن هذا هو البرهان علي شدة محبته لنا .

أتشاء يا هذا أن تعلم كمية زينة الصوم للناس و حفظه و ثباته لهم فتأمل جنس المتوحدين المطوب العجيب ، طيف أنهم يفرون من الاضطرابات العالمية و يبادرون نحو قمم الجبال ويشيدون لهم أكواخاً في هدوء الصحاري ويجعلون الصوم هناك مقتناهم و مسكنهم وشريكاً لهم في جميع حياتهم و أما هو فيجعلهم ملائكة عوض بشر . و ليس لهم فقط بل لكل من وجده محباً له في المدن و القرى يصعده إلي حدود علو الفلسفة . موسى و إيليا اللذان كانا مقدامي أنبياء العهد القديم المشرفين بضياء الدالة البهية مع جملة فضائل عديدة لما آثرا ان يقتربا إلي الله بادرا أولاً نحو الصيام و صعدا علي ساعديه نحو رب الجنود . و أيضاً لما أبعد الله الإنسان منذ الابتداء سلمه في أيدي الصوم ليضبطه و يهتم بخلاصه كأب محب لأولاده أو معلم ذي حزم بقوله لآدم : من كل ثمر شجر الفردوس كل فهو لك مباح أما شجرة معرفة الخير و الشر فلا تأكل منها البتة . أفليس هذا شكلاً من الصوم و الإمساك فإذا كان الصوم في الفردوس ضرورياً فكم بالحري يكون اكثر ضرورة إذا كان خارجاً عن الفردوس . و إذا كان الدواء قبل الجرح نافعاً لمقتنيه فكيف إذاً بعده ، و إذا كان الصوم جيداً لنا قبل معاناة حرب الشهوات لنتخذه لنا سلاحاً و وقاية فكم بالأحرى و إلا لزم أن يكون بعد العداوة الحاصلة من قبل الشيطان و شهواته .

 

56- إياك أن تتمحك

تعال إذاً إلي الصوم و لا تتعلل بأي شئ . يقول صاحب بستان الروح ” إياك أن تتمحك أو تتعلل بعدم القدرة علي الصوم و لا تدع جسدك و هو قوي يخدعك و يتظاهر بالضعف ، و لا تمتنع عن الصوم خشية ضعف جسدك ، فالعكس هو الصحيح فالصوم يكسب الإنسان قوة ونشاطاً و يمنع أسباباً تقصر العمر فمعظم النباتيين من المعمرين .

و يقول القديس أيرونيموس لمن يخشي هزال الجسد ” خير لك أن تمرض معدتك و لا تمرض نفسك. وأن ترتجف ركبتك و لا تتزعزع عفتك، فأقمع جسدك و استعبده لئلا ترذل”.

 

57- ألهتهم بطونهم

أحذر الشراهة في المآكل : فالشره في الطعام كمثل النار التي لا تشبع مهما زدتها وقوداً ، او كمثل البحر لا يمتلئ مهما صبت فيه الأنهار . و الكتاب المقدس يصف الشرهين بقوله ” الذين نهايتهم الهلاك الذين آلهتهم بطونهم ” (في 3: 19) .

يقول الحكيم ” ضع سكيناً لحنجرتك إن كنت شرهاً ” ( أم 22: 3) لأن الشراهة صفة من أقبح الصفات التي تحط من قدر الإنسان و تجلب عليه السخرية و الهزء ، و هي ليست من  صفات الإنسانية بل من طباع الحيوانات .

فمن الشرهين أناس يتناولون جميع ما تصل إليه أيديهم سواء كانوا جياعاً أو مملوءين. فإذا ما جلسوا علي مائدة انقضوا علي الطعام كما ينقض الوحش علي فريسته . بل إن بعض الوحوش لا تقدم علي الطعام عن لم تكن جائعة . فكأن هؤلاء ينزلون أنفسهم إلي درجة أدنى من الوحوش .

و منهم أناس يشتاقون دائماً إلي أنواع مخصوصة من الأطعمة قد لا تمتلكها أيديهم ، فإذا لم يتح لهم تناولها سال لعابهم و ساءت حالتهم . مع ان الرسول ينصح هؤلاء بقوله ” كونوا مكتفين بما عندكم ” ( عب13: 5).

إن الشراهة تضر بصاحبها ضرراً بليغاً ، و لقد قرر الأطباء أنه من الواجب ألا يأكل الإنسان إلا إذا شعر بالجوع ، و ألا يتناول أكثر من كفايته أو ينتظر حتى تمتلئ بطنه من الطعام .

و هي بلا شك مضرة بالعقل لأن الشرهين لا يمكنهم أن يفكروا أفكاراً نيرة ما دامت بطونهم مملوءة باستمرار ، و هي مضرة بالمعدة لأنها تكون سبباً في إجهادها . و فضلاً عن ذلك فكثيراً ما تضر صاحبها بالكسل و الخمول و تجعله عاجزاً عن تأدية عمله بجد و نشاط .

و من الغريب أن بعض الشرهين لشراهتهم قد يقدمون علي تناول أطعمة لا تتناسب مع سنهم و لا مع حالتهم الصحية برغم النصائح التي قد تسدى إليهم .

و مما لا يغرب عن الذهن ان الشراهة و كثرة الأكل من أقوى العوامل علي إثارة الجسد وتقوية شهواته و ملذاته ، و لذلك فقد وجد ان من أهم العوامل علي قمع الشهوات الجسدية التخفيف من الطعام بقدر الإمكان و عدم الإفراط في الأكل و اقتناء الصوم .

 

58- الصوم و الصحة الجسدية

يقول علماء الطب الطبيعي : ان أساس كل علاج طبيعي هو إطلاق القوى الشافية الكامنة في جسم المريض ، فإذا ما أطلقت هذه القوى استطاعت أن تعمل داخل الجسم حتى تعيد له قدرته علي أداء وظائفه بطريقة طبيعية ، و هذا معناه عودة الصحة إلي الجسم .

و أهم تلك الوسائل العلاجية الطبيعية التي تطلق القوى الشافية هي الصوم .

إن الجسم في حالة الصحة يقوم بأداء وظائفه و أنشطته المتنوعة بكل قوة و هذا يحتاج إلي

الطعام لأهميته المطلقة للحياة و الصحة و بتمثل عناصر الغذائية يتمكن الجسم من القيام بعمله .

و لكن إكراه الجسم علي تناول مواد الطعام الزائدة يومياً التي يقدمها إليه صاحبه الجاهل بأصول الغذاء و حقائقه من شأنه أن يعرقل الجسم في سبيل الاحتفاظ بمقدرة وظائفه ونشطة في مستوى أعلى . و هذه العرقلة تزداد خطورة سنة بعد أخرى، و لا يقتصر الأمر علي هذا فقط بل أن المقدار الزائد من مواد الطعام الذي لا يستطيع الجسم الانتفاع به أو التخلص منه يتخلف في الجسم و يبقي فيه كأساس لجميع الأمراض .

إن الأساس الطبيعي لكل مرض في الجسم البشري أو الحيواني هو التغذية الخاطئة . و هنا تظهر قيمة الصوم كعامل علاجي شاف فبالصوم أي الامتناع عن الأكل ينتهز الجسم الفرصة لتنظيف نفسه ، لأنه عندما يكون مواظباً علي تناول الطعام في أوقاته العادية و لو بكمية قليلة فإن الجسم يضطر أن ينشغل بمعالجة الطعام و تكون وظيفة تمثيل الطعام هي العملية الغالبة في عمليات الجسم ، و لكن عندما يمتنع الجسم عن تناول الطعام فإن عملية التمثيل تقف و تحل محلها عملية سلبية هي عملية الإزالة .

و عمليتا الإزالة و التمثيل لا يمكن أن تتقدما في عملهما جنباً إلي جنب بل من انقطاع تام عن الطعام إذا أريد أن تكون هناك عملية إزالة حقيقية لأن الجسم في حالة خلوة من الطعام يكون حراً طليقاً و قوته منصرفة بتمامها في معالجة ما تراكم من المواد السامة المتخلفة في الجسم .

إن السموم و الفضلات التي تجمعت تدريجياً في الأنسجة في عدة سنين تراها في وقت الصوم مدفوعة إلي الدورة الدموية و من هناك يطردها نشاط الجسم طرداً نهائياً بواسطة أعضاء الإفراز العادية كالجلد و الرئتين و الأمعاء و الكليتين و في ع\هذه الحالة و أثناء هذه العملية المنظفة للجسم يلقي علي الكليتين عبء زائد و كذا علي القلب الذي يختار فيه دم مثقل بالسموم و يصبح البول كثيفاً بالفضلات و سموم الجسم المطرودة ، وكذا تقوم الأمعاء بعملها فيما يتعلق بطرد الفضلات و يتغطى اللسان بطبقة من الوساخة هذا ما قرره علماء الطب الطبيعي و هذا تقديرهم للصوم و نفعه و تأثيره العلاجي لشفاء أمراض الجسم.

 

59 الصوم طبيعة في الإنسان والخلائق

الحيوان والطير يمسك عن الأكل ويصوم إذا ما شعر بانحراف فلا يأكل ولو أكرهته أو لاطفته وربما ظل ممتنعاً عن الأكل أسبوعاً أو أكثر ويكتفي بأن يرتشف بين وقت وآخر نقطة ماء إلى أن تلهمه غريزة المحافظة على النفس بأنه أصبح قادراً على تناول أكله .

وقد أشتهر بين الطيور والحيوانات التي تصوم كثيراً الدبة وقد قيل أنها إذا اعتراها وجع الأمعاء صامت أربعين يوماً بدون أكل وقيل أيضاً أن النسر يجدد شبابه بالصوم ودودة القز كيف تندرج في مسوح من الحرير وتلبث أياماً مدفونة في غلافها بلا طعام وبعد ذلك تخرج إلى حياة جديدة وشكل جديد .

وليست الحيوانات والطيور فقط التي تصوم بل والزارع أيضاً يصوم لأن الزرع النابت في مستنقع المياه لا يعيش لامتناع حرارة الشمس عنه بسبب كثرة الرطوبة وكذا الأشجار الكثيرة المياه يتربى السوس في جوفها بخلاف ما إذا أمسك الماء عنها وصامت وقتا ما فأنها تثمر وتحيا .

وكذا الجماد أيضاً فإن دوام الماء على الأرض يجعلها مستنقعاً تتجمع فيه الديدان والحشرات القاتلة للزرع ولذلك ترى المزارعين يعطشون الأرض ويمسكون الماء عنها وقتاً للتعرض لحرارة الشمس لتقويتها ولكي تعطي للزرع قوتها وتنقطع عنها الديدان والحشرات . ويذكر القارئ ما أشار به الأخصائيين كعلاج للأراضي الزراعية التي أصيبت بدودة القطن فقالوا: يجب أن تعطش نصف الأراضي الزراعية وتمنع عنها المياه والزرع مدة سنة وهكذا يعطش النصف الآخر في السنة الأخرى .

وكذلك الإنسان تاج الخلائق فأنه يمتنع بطبيعته بتاتاً عن الطعام من تلقاء ذاته في بعض الأمراض لا فرق بين الطفل والرجل فأنه يصوم عن الآكل فلا يأكل حتى ولو أكرهته أو لاطفته .

 

60 الصوم بلا تفاخر

حسناً نصوم ولكن ليس حسناً أن نتفاخر بالصوم ، لأننا عندما نتفاخر نكون قد أحسسنا بأننا صنعنا شيئاً وأننا قد أمسينا دائنين لله ، وحاشا لله أن يكون مديوناً لأحد ، بل أن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد فحسب لكنه يمتد إلى الدرجة التي ينبغي أن أخفي آية مظاهر قد تظهرني صائماً أمام الناس . ذلك أن الصوم إن كان في عالم الملموسات امتناع عن الطعام لفترة من الوقت ثم الأكل من أطعمة خالية من الدسم ، لكنه في جوهره وعمقه بناء عجيب في علاقتنا السرية مع الله .

 

61 لا تعلن عن صومك

إن خرجنا عن حد العلاقة السرية بيننا وبين أبينا السماوي وبدأنا نعلن عن أنفسنا حتى يعلم الناس أننا أهل التقوى .. كأن نسند بعض التقصير في أعمالنا إلي عدم وجود الجهد لدينا لأننا صائمون ، أو ننسب قلة الاحتمال وسرعة الغضب إلى الصوم ، ولسان حالنا يقول من لحظة لأخرى ” اللهم إني صائم ” .. إن هذا يقلب معني الصوم العظيم ويمسخه وينسب إليه ما ليس فيه حتى أن ذلك الجمال الفائق يصبح صورة مشوهه تشمئز منها النفس .

 

62 أخف صومك عن الناس

ولنفرض أن أعراض الصوم بدأت تظهر علينا فما هو موقفنا إزاءها ؟

إننا بأنفسنا لم نسع لنعلن عن أصوامنا لكنها حينئذ هي التي تعلن عن نفسها .. إلا أن هذا لا يخلينا من المسئولية لأنه يمكننا أن نغسل وجوهنا وندهن رؤوسنا فنظهر للناس صورتنا العادية التي تعودوا على رويتها فلا يكون هناك مجال لإشهار صومنا أمام الناس .

 

63 الصوم وضبط النفس

إن الحياة المسيحية وليدة التضحية وإنكار الذات تقوم على ضبط النفس وإلا كانت حياة لا تمتاز عن غيرها وتكون حياة ضائعة وقوة مبددة كحياة الكثيرين من النساء والرجال والشبان والشابات الذين يفنون العمر باطلاً ويضيعون قواهم الروحية والجسدية عبثاً .

ولقد شبه أفلاطون الفيلسوف النفس بصورة وحش كثير الرؤوس ، وصورة أسد ، وصورة إنسان يجمع هذه الصور الثلاث شكل واحد .

فالإنسان يمثل الطبيعة العليا أو العقل ، والأسد يمثل العنصر الانفعالي أي حدة الطبع وسرعة التأثر ، والوحش كثير الرؤوس يمثل الشهوات والمطامع وكل المشتهيات المنحطة الدنيئة .

فعندما يحكم الإنسان في الداخل يكون حال الإنسان هكذا سعيداً .

وضبط النفس نراه في الكتاب المقدس بارزاً ومتوجاً على الفضائل كثيرة فقال سليمان الحكيم : إذا جلست تأكل مع متسلط فتأمل ما هو أمامك تأملا وضع سكيناً لحنجرتك أن كنت شرهاً (أم 23 : 1 ) وقوله : البطيء الغضب خير من الجبار ومالك روحه خير من يأخذ مدينة  (أم 16 : 32 ) .

ويقول القديس بولس الرسول : ” وكل ما يجاهد يضبط نفسه في كل شيء ” ( 1 كو 9 : 25 ) وعن الأسقف يقول ” يجب أن يكون ضابطاً لنفسه ” ( تى 1 : 8 ) ويقول عن نفسه ” بل أقمع جسدي وأستعبده ” ( 1 كو 9 : 27 ) .

فالمسيحية لا تبقي على وسيلة إلا وتستخدمها لإخضاع الجسد وضبطه . ، لذلك كان من المحتوم على المسيحي أن يتعلم ممارسة ضبط النفس وإلا سقط في مواقف النضال .

أن المسيحية هي القوة التي تضع القدم على الوحش وتغلبه ، والصوم من أكبر واعظم أعمال ضبط النفس وتهذيبها وترويضها لأن الإنسان الذي يستطيع أن يتمتع عن لذة الآكل الذي هو ضروري لقوام الحياة والذي أصبح عادة كالطبيعة فيه يستطيع بعد ذلك أن يمسك نفسه عن الاندفاع وراء كل لذة أو شهوة ولو كان قد أعتادها .

وليست الكنيسة وحدها ترى هذا الرأي بل علماء النفس الحديثون يقررون بأن الصوم من أقوى التمارين على تقوية الإرادة وضبط النفس ” أن الحياة العصرية تستخدم قوى كثيرة أن أخضعت كانت خير خدم ، وأن لم تضبط كانت سيادتها خطراً ، ويكفي أن نشير هنا إلي الكهرباء التي لو تركت بدون عوازل لقتلت الألوف وأنابيب الغاز التي لو أهمل ضبطها لدمرت الأحياء .. والأشياء القابلة للانفجار التي لو أغفل الاعتناء بها لخربت المدن ، ولكن هذه تعتبر توافه لو قورنت بقوة العقل الباطن الخطيرة فإن فكراً وحشياً يقضي على سلام العائلات جيلاً كاملاً وقد كانت أحلام الطامعين سبباً في هلاك الملايين من البشر وخراب الأقاليم المزدهرة العامرة .

” أن ضبط النفس يضع العالم تحت أقدامنا ” .

هذا ما قرره علماء النفس ومنه نعلم أن الصوم أكبر تمرين بل هو أساس التمارين لضبط النفس لأن الذين يملأون بطونهم يشبهون السفن المشحونة أحمالاً ثقيلة بعيدة عن أغراض الحرب أما الصائمون فيشبهون السفن الحربية التي لا يوجد فيها ألا أسلحة وجنود متمرنون مهيأون للقتال ويمكن في هذه الحالة إداراتها كيفما يلزم الأمر بخلاف السفينة الأولي . 

فالصوم هو اللجام القوى الذي يكبح جماح الجسد ويخضعه لقيادة الروح في مواقف القتال الروحي ضد أعوان الشر وجنود الظلمة .

 

64 الصوم المكروه

لقد كره الله الصوم وغيره من الأمور الأخرى كعمل يؤديه الإنسان ليفتخر به على غيره من الناس . وقال لقوم واثقين بأنفسهم أنهم أبرار ويحترقون الآخرين هذا المثل :

إنسانان صعدا إلى الهيكل ليصلياً وأحد فريسي والآخر عشار ، أما الفريسي فوقف يصلى في نفسه هكذا ” اللهم أشكرك أني لست مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة ولا مثل العشار . أصوم مرتين في الأسبوع وأعشر كل ما أقتنيه . وأما العشار فوقف من بعيد لا يشاء أن يرفع عينيه نحو السماء بل قرع على صدره قائلاً : اللهم ارحمني أنا الخاطئ . أقول لكم إن هذا نزل إلى بيته مبرراً دون ذاك . لأن كل من يرفع نفسه يتضع ومن يضع نفسه يرتفع ” ( لو 18 : 9 14 ) . 

بماذا كنت تحس أيها الفريسي ؟ هل أنت قد صنعت لله معروفاً بصومك مرتين في الأسبوع ناسياً أن صومك لا يفيد الله بل تعود فائدته عليك لأنه الله الكامل وغير المتغير .. هل أنت بهذا جعلت على الله ديناً وهو يملكك بالتمام لأنه صنعك وكل القوى التي فيك من لا شئ .. ولماذا تفتخر فتعاير الغير بحسن صنيعك ولا تقارن نفسك إلا بمن هم دون مستواك حسب حكمتك الظاهري .. أنت ترى أنك أعظم من الجميع رغم أن الحقيقة تؤكد أن الكثيرين أفضل منك ؟ أنت تعلم ولا تعمل فأي عذر لك ؟ بينما غيرك يعمل قليلاً حسب معرفته القليلة .. فإن زادت معرفته زاد عمله .

لهذا فإن صمت فلا تفتخر على غيرك لأنه من جعلك قاضياً ودياناً له .. بدلاً من أن تنقذ ذاتك لأن النقد الهدام للغير لا يفيد في شئ .. أنظر إلى أولئك القديسون الذين كانوا يصومون بالأيام والأسابيع . أين أنت من هؤلاء ؟ لا تجعل صومك مكروهاً أمام الله بل بالحري أجعله أحد الوسائل التي تقربك منه لتختبره بصورة أعمق .

 

65 صوم بلا كبرياء

إذا فارق الأتضاع الصوم كان معني ذلك ضعف الصوم لأنه ليس تفاخراً وتظاهراً . أن الصوم الحقيقي هو صوم في الخفاء بلا تكبر ” وتسربلوا بالتواضع لأن الله يقاوم المستكبرين وأما المتواضعين فيعطيهم نعمة ” ( 2 بط 5 : 5 ) .

قال أحد القديسين ” تعب الإنسان بلا أتضاع يضيع كالفريسي ”

وقد بلغ الأنبا مكاريوس عن راهب متوحد داخل البرية له خمسون سنة .. لم يأكل فيها خبزاً .. كان يقول عن نفسه إنه قتل ثلاثة أعداء : الزنا وحب المال والمجد الباطل فسار به الأب مكاريوس ، ولما رآه المتوحد وكان رجلاً ساذجاً فرح كثيراً .

فسأله الشيخ عن عزائه وعن أحواله وقتاله ودار بينهما الحديث التالي قال المتوحد : قد زال مني قتال الزنا وحب المال والمجد الباطل .

ــ قال له الأب مكاريوس : ما هذا الذي تقوله يا أبي ؟! إذا رأيت امرأة جميلة أيمكنك ألا تفكر بأنها امرأة ؟

ــ لا .. ولكني أمسك فكرى عن أن أشتهيها .

ــ مبارك وإذا وقع نظرك على ذهب مطروح بجانب حجارة أما تميز بعضه من بعض ؟!  

ــ نعم .. ولكني أمنع فكرى ولا آخذ منه شيئاً .

ــ حسناً .. وأن سمعت أن أخاً يحبك ويمجدك وآخر يبغضك ويشتمك وقد حضر الاثنان عندك . أيكونان لديك في منزلة واحدة ؟

ــ لا .. ولكني أمسك فكرى ألا أقاتل عداوة شاتمي بمثلها .

ــ أغفر لي انك حسناً جاهدت وقاتلت وصبرت لأجل المسيح لكن أوجاعك لم تمت بعد وهي حية ولكنها مربوطة فتبت وأستغفر الله ولا تعد تقول عن نفسك هكذا فتحيا فيك الأوجاع أكثر.

فلما سمع منه المتوحد هذا الكلام أنتبه من غفلته وسجد بين يدي القديس مكاريوس قائلاً أغفر لي يا أبي لقد داويت جراح جهلي بمراهم وعظك الصالح .

فأين نحن بجوار ذلك الذي كان يحيا حياته صائماً لكنه كان يفتخر بانتصاراته .. إن الصوم ليس لأجل التظاهر ولا لأجل التفاخر بل هو عملي جسدي في مظهره ، روحي في أعماقه بالدرجة التي تجعل قوة الروح تخفي مظاهر الصوم الجسدي حتى لا ينتفخ الصائم بل يظل في عمق الهدوء في علاقته هذه مع الله .

 

66 لماذا نظهر صومنا للناس

ماذا أستفيد من ظهورى أمام الناس بالتقوى ؟ هل يستطيع أنه يكافئني أحد ؟ أيهما أجدى : أقول للناس أنا نور ؟ أم أن أترك مصدر النور الحقيقي ينيريني أمام الناس ليس ليمجد الناس نوري بل ليمجدوا مصدرة . ونور الله قد لا يضئ على الإنسان يتباهى بذلك النور لأن الإنسان حينئذ قد ينسبه لنفسه وهو في حقيقته ظلام دامس .. وكثيراً ما يكون السر في عدم عمل الله فينا هو عدم سماحنا له بذلك .. فأما أن نعمل نحن وإما أن يعمل الله فينا ، ولهذا فأننا نحتاج دائماً إلي إخلاء الإرادة الذاتية لكي يبدأ الله عمله العظيم فينا .

يقول القديس باسيليوس ” عود جسدك طاعة نفسك ، ونفسك طاعة إلهك ، مالا ينبغي أن تعمله فلا تفكر فيه ولا تذكره . إن أردت أن تكون معروفاً عند الله فأجتهد ألا تكون معروفاً لدي الناس .

إلي هذا الحد تكون منفعة العمل المقدس الذي هو الصوم في الخفاء .. إن المسألة تحتاج إلي جهاد لكي نخفى أصوامنا عن الناس .. وهذا الجهاد نفسه إنما يقربنا من الله . إنني أخلى من ذهني بالتمام أهمية معرفة الناس لممارساتى في الصوم وحينئذ أتفرغ للتركيز على النظر إلى داخلي .. إلى داخل حيث روح الله الساكن في أعماقي .

ولكي تجعل السيطرة لأرواحنا على أجسادنا فلا بد أن نروض الجسد ونخضعه للروح لأننا مديونون ليس للجسد لنعيش حسب الجسد لأنه إن عشتم حسب الجسد فستموتون ولكن إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله ( رو 8 : 12 14 ) .

ولماذا نريد أن نظهر فضائلنا أمام الناس ونحن نعلم أن هذا يقودنا إلى الكبرياء ، ”  قبل الكسر الكبرياء وقبل السقوط تشامخ الروح ” ( أم 16 : 11 ) .

ولقد كان القديس مكاريوس يصوم ويسهر كثيراً لكن اقتران ذلك بتواضعه أذل الشيطان إذ ظهر له مرة وقال له :

” ويلاه منك يا مكاريوس هوذا كل ما تصنعه فإياه أصنع وأكثر . أنت تصوم وأنا لا آكل . أنت تسهر وأنا لا أنام . لكنك تغلبني بشيء واحد فقال له القديس وما هو ؟! أجابه أنك بالاتضاع وحده تقهرني ” .

 

67 المجازاة ورغبات القلب

أن الله يكافئ الناس ويعاقبهم حسب رغبات قلوبهم . فالناس الصادقون ينالون المدح من الله لأنهم يطلبون هذا المدح منه مفضلين إياه على كل شئ إذا يطلبونه بصوم العقل عن ملذات الخطية ، يطلبونه بالجوع والعطش إلى البر ، يطلبونه بالثقة في دم المسيح بقلب متجه إلى البر ، يطلبونه بالسرور والابتهاج بالأعمال الصالحة وأعمال الرحمة والإحسان .

أما المراؤون فينالون المديح من الناس لأنهم يطلبونه مفضلين إياه على مدح الله ويحصلون على ما يسعون في طلبه من المديح الذي لا يستحقونه وينالونه من البسطاء السذج الذين لا يستطيعون رؤية خبثهم ومكرهم ، يحصلون عليه من المتملقين المداهنين ! .

 

68 الأذن الصائمة والصديق القديم

أن كل كلمة يسمعها الإنسان لها أثر فعال في حياته وتصرفاته وصفاته . ولربما تكون كلمة عذبة مشجعة يسمعها شاب أو طفل سبباً في إسعاده ونجاحه مدى الحياة ، وبالعكس قد تكون كلمة أخرى عاملاً على بث اليأس والقنوط فيه ، وجر صنوف الشقاء والعناء والفشل عليه .

فالعاقل من لا يفتح أذنه لكل صوت ، أو يهيئها لسماع كل الأحاديث ، بل يصونها ويحفظها ولا يسمعها إلا الحديث الذي يستريح أليه ضميره العاقل هو من يدرب أذنه على الصوم .

تاب شاب فجاء أليه صديق قديم وقال له ” كنت بالأمس في السينما وشاهدت رواية جذابة . أنها قصة حب وغرام شيقة وسأقص عليك خلاصتها فهي ممتعة ” فقاطعه الشاب المؤمن الذي تعلم كيف يجعل أذنيه صائمة ” ليست أذني صندوق قمامة يطرح فيه الناس ما لديهم من القاذورات ” ثم هرب دون أن يسمع باقي الحديث .. لقد قال رب المجد ” انظروا كيف تسمعون ” ( لو 8 : 18 ) .

كثيراً ما ينصب العدو شباكه لينجس السمع عن طريق أحاديث مبتذله أو أغاني عالمية ، فلنهرب منها أن أردنا الاحتفاظ بطهارة آذاننا ، فلا نسمح أن يمر من هذه الحاسة إلى داخلنا ألا كل ما هو مقدس ” لننصت ألي نصيحة الحكيم ” يا بنى أن قبلت كلامي وخبأت وصاياي عندك ، حتى تميل أذنك ألي الحكمة وتعطف قلبك على الفهم ” ( أم 2 : 1 ) .

” اسمع يا أبني تأديب أبيك ولا ترفض شريعة أمك لأنها إكليل نعمة لرأسك وقلائد لعنقك ” (أم 1 : 8 9 ) .

” أسمع يا أبني وأقيل أقوالي فتكثر سنو حياتك ” ( أم 4 : 10 ) .

” الآذان السامعة توبيخ الحياة تستقر بين الحكماء .. من يسمع للتوبيخ يقتنى فهماً ” ( أم 15 : 31 32 ) .

أسمع المشورة وأقبل التأديب لكي تكون حكيماً في أخرتك ” ( أم 19 : 20 ) .

” في أذني جاهل لا تتكلم لأنه يحتقر حكمة كلامك ” ( أم 23 : 9 ) .

” وجه قلبك ألي الأدب وأذنيك ألي كلمات المعرفة ” ( أم 23 : 12 ) .

 

69- الأذن التي لا تصوم تحيطها الأخطار

هناك أخطار تأتينا عن طريق الأذن أن لم نحفظها بالصوم . منها الإصغاء إلي أحاديث اللهو و السخرية . و المجون و عدم الوقار . أنظر شباب اليوم تجدهم يميلون إلي الاستماع للكلمات البطالة و التسليات المعثرة و الأغاني الغرامية و الروايات البذيئة و النكات السخيفة و الألفاظ القبيحة . و من المؤلم أن الناس لا يغشون الملاهي و لا يستمعون الراديو أو التليفزيون في غالب الأحيان ، إلا لكي يشحنوا أسماعهم بهذه الأمور العاطلة ، وكم نشاهد شاب مغرماً بالجلوس في مجالس السوء حيث يقذف وأصحابه الألفاظ الخارجة عن حدود اللياقة و الأدب ، فيصغي إلى مجونهم ، ويحسب أن هذا ترويحاً للنفس مع أن فيه قتلاً للفضيلة ، وسفكاً لدم الأخلاق ، لأن كل كلمة شريرة تطرق طبلة الأذن تترك أثراً سيئاً في العقل ، ولربما سقط إنسان بسببها وهلك ” يحملون الدف و العود ويطربون بصوت المزمار يقضون أيامهم بالخير . في لحظة يهبطون إلى الهاوية ” ( أي 21 : 12 13 ) .

وقد يجعل المسيحي آذانه آلة لسماع الوشايات ، وطريقاً للإصغاء إلى النميمة و القذف في حقوق الناس ، فتراه يستريح إلى صوت من يعدد نقائصهم ويشرح عيوبهم مع أن الله ينسب هذا العمل إلى الأشرار الأثمة لأن ” الفاعل الشر يصغي إلى شفة الإثم و الكاذب يأذن للسان فساد ” ( أم 17 : 4 ) إن الأذن ما خلقت إلا لتكون حجرة مقدسة للسيد المسيح فلا يليق أن نستمع بها لقصص الغرام أو قصائد الغزل أو أمور اللهو التي لا تفيد لأن هذه أمور خارجة عن الأغراض السامية التي خلقت الآذان لأجلها .

إن حواء لما كانت في الجنة تستمع لصوت الله كانت في سعادة وهناء ، وبمجرد أن فتحت آذانها لكي تستمع لصوت الحية سقطت هذا السقوط المريع ، وهكذا كم من أصدقاء يخدعون أصدقائهم بألفاظ الضلال و الغش حتى يصرفهم عن الكنيسة و العبادة و التدين ويجروهم إلى مهاوي السقوط ، ولهذا يحذرنا الحكيم منهم قائلاً ” يا ابني إن تملقك الخطاة فلا ترض ” ( أم 1 : 10 ) قد تكون محبتهم عظيمة وصداقتهم متينة ولكن ما الفائدة من المحبة التي تكون عثرة في سبيل الخلاص ؟ وماذا نستفيد نحن من المحبة إذا لاحظنا شعورهم وخضعنا لآرائهم ؟ أما يكون مثلنا كمثل الأحمق الذي يرى شخصاً غارقاً في البحر فعوضاً عن أن يحاول إنقاذه يحاول أن يغرق نفسه معه ؟

تذكر ما يقوله الآباء عن الأذن وحاسة السمع :

يقول القديس نيلس : ” أحتفظ بأبواب السمع .. فقد اعتادت سهام الشر الدخول من هذه الأبواب ” .

يقول الأنبا إشعياء : ” لا تقبل أن تسمع ضعفات أخيك أو تلموه وإلا فأنت هالك ” .

يقول القديس الأنبا أنطونيوس : ” لا تكن قليل السمع لئلا تكون وعاء لجميع الشرور ، فضع في قلبك أن تسمع لأبيك فتحل بركة الله عليك ” .

 

70 هناك فرق

ما أعظم الفرق بين الأصوات التي يسمعها البار الذي تعود أن يجعل أذنيه صائمة و التي يسمعها الشرير الذي لم يدرب أذنيه على الصوم قبل الموت وبعده ، فالبار في حياته يقبل التأديب و الانتهار و التوبيخ و الشتائم ، بينما يفتح الشرير آذانه ليسمع الأغاني و الأحاديث المغرية و المعثرة ، ولكن يا للأسى لأنه بعد الموت تتبدل الأحوال ، فأذن البار تتفتح لكي تسمع صوت الله المعزي ” تعالوا يا مباركي أبي رثول الملك المعد لكم منذ تأسيس العالم ” ( مت 25 : 34 ) وتصغي لترانيم الملائكة ” قدوس . قدوس . قدوس رب الجنود ” ( أش 6 : 3 ) وحينئذ يتم عليه القول ” أما المستمع لي فيسكن آمناً ” ( أم 1 : 33 ) ، و أما الأشرار فلا يسمعون من الله إلا ذلك الصوت المرعب ” أذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس و ملائكته ” ( مت 25 : 41 ) ، وحينئذ تمتلئ بالرعود المخيفة ، و الأصوات المنكرة ، و النغمات الشنيعة ، يطرحون في البحيرة المتقدة بالنار و الكبريت فلا يسمعون إلا صراخ الشياطين ، و عويل المعذبين ، وحينئذ يتحقق وعيد الله ” لأني أشهدت على آبائكم إشهاداً .. قائلاً اسمعوا صوتي فلم يسمعوا ولم يميلوا آذانهم بل سلكوا كل واحد في عناد قلبه الشرير فجلبت عليهم كل كلام هذا العهد الذي أمرتهم أن يصنعوه ولم يصنعوه ” ( أر 11 : 7 8 ) . ويتم قوله ” صوت رعوب في أذنيه . في ساعة سلام يأتيه المخرب ” ( أي 15 : 21 ) .

آه لو قارنا بين الأصوات التي يسمعها المسيح ، و بين الأصوات التي نسمعها نحن ، فالمسيح كان يستمع إلى أصوات الاستغاثة و التضرعات الصادرة من قلوب المساكين و البؤساء ، ورفض كل الأصوات التي لا فائدة من سماعها . رفض المديح الباطل وقال ” مجداً من الناس لست أقبل ” ( يو 5 : 41 ) ، ورفض مشورة الشيطان لما أراد أن يجربه ( مت 4 ) وأسكت لسان الذين أدانوا المرأة الخاطئة بقوله ” من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر ” ( يو 8 : 7 ) ، وأبتعد تماماً عن أحاديث الكذب و الوشاية و الهزل فلماذا نفرح نحن بأغان تتحول إلى بكاء ، ومزاح يجلب بعده الشقاء ، و موسيقى خليعة نسمع بعدها عويلاً ونحيباً ، ومديح نسمع بعده توبيخاً وتأنيباً ؟ ما أجدر بنا أن نرضى بالأصوات التي نسمع بعدها أصوات الرضى و اللين ، ونرفض تلك الكلمات المعسولة و النغمات العذبة التي تصم آذاننا بعدها بسماع أصوات الغضب في يوم الدين .

فلتكن حكيماً في استعمال أذنك ؟ وأعرف الأحاديث التي يجب أن تصغي بها إليها و التي يجب أن تأنى بها عنها ، أصغ بها إلى أحاديث الحكماء و المختبرين حتى تكتسب من حكمتهم وتخرج من مجالسهم رابحاً لا خاسراً ” أمل أذناك وأسمع كلام الحكماء و وجه قلبك إلى معرفتي ” ( أم 22 : 17 ) ، لأن ” أذن الحكماء تطلب علماً ” ( أم 18 : 15 ) . أما السفهاء وأصحاب المزاج الرديء و الأصدقاء غير المحتشمين فيجب أن تقاطع أحاديثهم وكلماتهم تماماً . صوم الأذن فيه حفاظ على أبديتك .

 

71- الكنيسة و الصوم

رتبت الكنيسة المسيحية أصواماً معينة لكي يشترك جميع المسيحيين بروح واحد و غرض واحد ما عدا الأصوام الفردية الخاصة و الأصوام العامة التي تفرض حسب الظروف والأحوال .

و إذا كان السيد المسيح قد قال لتلاميذه ” أنتم ملح الأرض جاز لنا أن نقول أيضاً عن الصوم انه ملح الطبيعة البشرية و هو بصلها الداخل في كل طعام روحي مقترناً بصلواتها ومسيطراً علي كل ظروفها المختلفة .

و إذا كان قد جاز لأصحاب الطب الطبيعي أن يقرروا أياماً معينة للصوم لمرضاهم من يوم إلي أربعين فهل لا يجوز للكنيسة أن تضع أصواماً في أيام معينة تطول و تقصر حسب مقتضيات الأحوال وحسب ما ترى لمصلحة النفوس و خلاصها و تهذيبها و ترويضها .

ألا يمنع أطباء الأمراض الباطنية مرضاهم عن الطعام مدداً حسب حالة المرض و يصرحون لهم بنوع من الغذاء الخفيف !

و لماذا يجوز لأطباء المستشفيات القائمة عند عيون المياه المعدنية ان يعينوا عدد المرات التي ينزل فيها المريض الحمام و مقدار الزمن الذي يمكنه فيها و عدد جرعات الماء التي يتناولها من الماء المعدني ؟

و لماذا لا يجوز للكنيسة أن ترتب أصواماً دورية في أيام معينة معروفة يشترك فيها الجميع. و يخطئ البعض الذي يظن أن لا فائدة من الأصوام المعينة الدورية إذ يظنون أن الصوم يكون للمناسبات فقط كالحزن أو الضيق أو الخطر أو التوبة عن الخطية .

لأن الصوم لا ينحصر في هذه الدوائر فقط بل يتعداها إلي مناحي الحياة الأدبية كلها فهو معلم الأخلاق و السلوك و مهذب النفس و مدربها و مروضها علي كل ضروب الفضائل .

فهل يؤخذ الجنود للجيوش من الشارع دون تعليمهم في مدارس للتدريب العسكري ؟

و هل لا يتحتم علي الجنود أن يدخلوا مدارس التدريب العسكري شهراً أو شهرين في السنة لتدريبهم حتى إذا جد الجد و احتاج ميدان القتال لهؤلاء نزلوا إلي الميدان مدربين ؟

و هكذا جنود المسيح و جيوش الكنيسة الذين يناديهم القديس بولس الرسول قائلاً: ” ألبسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا ان تثبتوا ضد مكايد إبليس . فإن مصارعتنا ليست مع لحم ودم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة هذا العالم علي ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية في السماويات . من أجل ذلك احملوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تقاوموا في اليوم الشرير ……” (أف 6: 11- 13 ) . هم بحاجة إلي مدرسة التدريب العسكري يدخلونها في صوم الأربعين و صوم الرسل و صوم العذراء و صوم الميلاد ندخلها نحن وأولادنا و بناتنا كباراً و صغاراً للتدريب .

 

72- التظاهر بالصوم يحرمك من الفضائل الحقيقية

هل نصوم ؟ .. حسناً نفعل .. و لكن حينما نصوم و نقرن صومنا بالتظاهر به ، أو عدم العمل علي منع ظهورنا كصائمين أمام الناس هذا يعتبر في حد ذاته خطية .

لا تعجب من هذا الكلام لأنه ما التظاهر إلا عمل نأتيه رغبة في الافتخار بأنفسنا ناسين أن الله هو مصدر كل شئ … أسمع لصوت الرب علي فم أحد قديسيه الذي أحس به يقول : ” أما من أراد الافتخار خارجاً عني أو التمتع بخير خاص ، فلن يثبت في الفرح الحقيقي و لن ينشرح قلبه بل يعاق و يضاق علي وجوه شتى ، فعليك إذاً أن لا تدعي شيئاً من الصلاح لنفسك و لا تنسب فضلاً لأحد من الناس بل أرجع كل شئ إلي الله الذي بدونه لا يملك الإنسان شيئاً .

لماذا تظهر صومك أمام الناس ؟ ألتفتخر به ؟ أسمع لأحد القديسين يقول لك : ” ليس كل شئ يمكنك أن تفتخر به ، و لكن عندك أشياء كثيرة توجب عليك احتقار نفسك لأنك أضعف بكثير مما يمكنك أن تدرك ، فلا تستعظمن إذاً شيئاً من كل ما تفعله ، و لا تحسبن شيئاً عظيماً و لا كريماً ، و لا عجيباً ، و لا جدير بالذكر ، و لا سامياً و لا حميداً ، أو شهياً حقاً، إلا ما هو أبدي .

يا ابني أنه لأفيد  و آمن لك ، ان تكتم نعمة العبادة ، و ان لا تزهو بها ، و لا تكثر من التحدث عنها ، و لا تبالغ في تعظيمها ، بل بالحري أن تحتقر ذاتك ، و تخاف خوف من أوتي النعمة من غير ما استحقاق .. لا يجوز التشبث بإفراط في هذه العواطف فغنها قد تتحول سريعاً إلي عكسها .

فبم أستطع إذاً أن أفتخر ؟ و لماذا أبتغي مديح الناس ؟ ألأجل عدمي ، فذلك أعظم البطلان حقاً عن المجد الفارغ لوباء خبيث، بل هو منتهى البطلان ، لأنه يبعد عن المجد الحقيقي ، و يسلب النعمة السماوية . فالإنسان عندما يعجب بنفسه ، يصبح غير مرضي لديك ، وحينما يتوق إلي مديح الناس ، يحرم الفضائل الحقة . أما المجد الحقيقي و الابتهاج المقدس ، فهو أن يفتخر الإنسان بك يا رب لا بنفسه ، و أن يفرح لا بفضيلته و أن لا يلتذ بخليقة البته إلا لأجلك . فليسبح اسمك لا أسمي ، و ليعظم عملك لا عملي ، و ليبارك اسمك القدوس و لا ينسب لي شئ من مديح الناس.

 

73- صوم الفكر

ليس الصوم هو الامتناع فقط عن الأكل إنما هناك أصوام أخرى أهم منها صوم الفكر واللسان فالفكر هو القاطرة التي تسحب الجسد كله إلي أي اتجاه تسير فيه ، و صوم الفكر هو  منعه عن الطياشة و التفكير في الشر الذي يغضب الله و يهلك الإنسان ، و كلا الناحتين البناء و الهدم منها نتيجة الفكر أولاً . فما من نجاح و سمو للروح و العقل إلا و كان الفكر هو الباني . و ما من فشل و انحطاط للحياة برمتها إلا و كان الفكر هو معول الهدم .

و قليلاً جداً ان تحدث خطيئة مفاجئة دون ان يتدخل الفكر أولاً في تهيئة جوها كان يأخذ الإنسان علي حين غفلة .

 

74- جريمة أخوة يوسف

الجريمة التي أرتكبها أخوة يوسف في بيعه و التخلص منه لم تكن بنت ساعتها و لكن سبقها تفكير طويل ، أولاً انه كان المحبوب من والده و بالتالي ألبسه القميص الملون الذي لا يلبسه إلا أولاد الأغنياء و الأمراء ، و هو المدلل و هم رعاة الغنم المحتقرون ، و هو الذي ينام مع والده في الخيمة و هم الذين تأكل أجسادهم الحشرات و البعوض و البرد والحر و كل يوم في مكان .

هذه التطورات الفكرية أخذت مكانها في قلوبهم و بالتالي زرعت في نفوسهم الحسد و الحقد و البغضة ليوسف ، و لما نضجت ثمرة الشر في قلوبهم باعوا أخاهم الحبيب . و قبلها رموه في الجب ليموت ، و هذا دون أن يحسوا انهم قساة متوحشون فيما فعلوا ، و السبب الأول و الأخير هو  الفكر الخاطئ الذي أطلقوا له العنان فنما و اتسع إلي أن صار ما صار.

 

75- الصوم و الغنى و الأفكار الشريرة

الرجل الغني الذي يصفه السيد المسيح له المجد بالغبي ، حين رأي حقوله الخصبة وتخيل المحصول قبل أوانه ، فكر طويلاً فيما يفعل من هدم مخازنه و بنائها و غناه و حياته الطويلة و تمتعه فيها ، و هو لم يعلم ان ثواني قليلة بين أمجاده و الحفرة التي يسكنها إلي الأبد .

و قس علي هذا جرائم السرقة و القتل و الفساد و الكراهية و الاختلاس ، هذه المفاسد المهلكة و الهدامة للمجتمع هي نتائج التفكير الشرير و الفكر السائب دون رقابة أو قمع .

فمن صوم فكره عن الشر أي منعه من التفكير الخاطئ ربح نفسه و بنى مجتمعه و أرضى خالقه و ورث نعيمه .

و السيد المسيح له المجد يضع الأفكار الشريرة في مقدمة القائمة المشئومة التي تنجس الإنسان حيث يقول : ” إن الذي يخرج من الإنسان ذلك ينجس الإنسان لأنه من الداخل من قلوب الناس تخرج الأفكار الشريرة . زنى ، فسق ، قتل ، سرقة ، طمع ، خبث ، مكر ، عهارة ، عين شريرة ، تجديف ، كبرياء ، جهل ، جميع هذه الشرور تخرج من الداخل وتنجس الإنسان (مت 7: 20،22،23).

و يقول القديس مكاريوس : أساس الصلاة الصحيح هو ان نضبط أفكارنا لأنه يقتضى أن يكون حرص الإنسان كله علي أفكاره لقطع كل الظنون و الوسواس الخبيث ، و لا يتبع هوى أفكاره بل يردها و يميز بين الأفكار الطبيعية و الأفكار الشريرة .

 

76- اليد و الصوم

اليد هي أحد أعضاء جسم الإنسان التي بها يرفع الصلاة إلي الله ” باسمك أرفع يدي ” (مز63: 4).

و يستمطر مراحم الله “بسطت إليك يدي” (مز 88: 9) و يبارك اسمه القدوس “ارفعوا أيديكم نحو القدس و باركوا الرب” ( مز 134 : 2 ). و يقدم صلاته كذبيح عقلية أمام عرش النعمة ” لتستقم صلاتي كالبخور قدامك ، ليكن رفع يدي كذبيحة مسائية ” (مز141: 2).

اليد هي التي منح بها الرسل و التلاميذ نعمة الشفاء للمرضى حيث كانوا “يضعون أيديهم علي المرضى فيبرأون” (مرقس 16: 18 ).

و قد سبق أن أخذوا سلطان الشفاء هذا من رب المجد يسوع المسيح ” ثم دعا تلاميذه الإثنى عشر و أعطاهم سلطاناً علي أرواح نجسة حتى يخرجوها و يشفوا كل مرض و كل ضعف (متى10: 1).

و بهذا السلطان نجد أن حنانيا قد أعاد نعمة الإبصار لشاول الطرسوسي “فمضى حنانيا ودخل البيت و وضع عليه يديه و قال : ” أيها الأخ شاول قد أرسلني الرب يسوع الذي ظهر لك في الطريق الذي جئت فيه لكي تبصر ” (أع 9: 17) ” لأنه كان و هو مفتوح العينين لا يبصر أحداً ” ( أع 9: 8) بعد أن ظهر له السيد المسيح و هو في طريقه إلي دمشق .

اليد هي التي كان يصنع بها التلاميذ و الرسل العجائب و المعجزات بعد ان حل عليهم مواهب الروح القدس في يوم الخمسين ” و كانت آيات و عجائب كثيرة تجري علي أيدي الرسل” (أع 2: 43). مثلما حدث مع الرسولين بطرس و يوحنا اللذين منحا الشفاء للرجل الأعرج عند باب الهيكل الجميل حيث ” امسكه بطرس بيده اليمنى و أقامه ففي الحال تشددت رجلاه و كعباه و وثب و وقف و صار يمشي ” ( أع 3: 7، 8) .

ومثلما حدث مع الرسولين بولس وبرنابا اللذين كانا ” يجاهران بالرب الذي يشهد لكلمة نعمته ويعطي أن تجرى آيات و عجائب على أيديهما ” ( أع 14 : 3 ) .

اليد هي التي بها يمنح التلاميذ و الرسل مواهب الروح القدس للذين يؤمنون بالمسيح الفادي مثلما حدث مع مؤمني أهل أفسس ” ولما وضع بولس يديه عليهم حل الروح القدس عليهم فطفقوا يتكلمون بلغات ويتنبأون ” ( أع 19 : 6) .

 

اليد التي بها يقيم التلاميذ الرسل الأساقفة و القسوس للخدمة الكنسية ، لهذا يوصي الرسول بولس تلميذه تيموثيئوس قائلاً ” لا تهمل الموهبة التي فيك المعطاه لك بالبنوة مع وضع أيدي المشيخة ” ( 1 تيموثيئوس 4 : 14 ) .

ويقول له أيضاً ” أذكرك أن تضرم موهبة الله التي فيك بوضع يدي ” ( 2 تيموثيئوس 1 : 6) . اليد هي التي يشتغل الإنسان ويعمل للحصول على رزقه ” لأنك تأكل من تعب يديك ” (مز 128 : 2 ) وما يحتاجه من متطلبات .

لهذا أوصى القديس بولس الرسول أهل تسالونيكي قائلاً : ” أن تحرصوا على أن تكونوا هادئين و تمارسوا أموركم الخاصة و تشتغلوا بأيديكم أنتم كما أوصيناكم ” ( 1 تس 4 : 11) كما مارس القديس بولس الرسول ذلك بنفسه قائلاً ” فضة أو ذهب أو لباس أحد لم أشتمه . أنتم تعلمون ان حاجاتي و حاجات الذين معي خدمتها هاتان اليدان ” (أع20 :34) .

اليد هي التي تعمل ما يرضي الله حتى تصل بالإنسان مع باقي أعضاء جسمه إلي حياة النصرة .

و للوصول إلي ذلك ينبغي علي الإنسان التخلي عن كل ما يغضب الله ، و يبعده عن حياة الشركة مع الله حتى لو كان ذلك يتمثل في شخص أو شيء محبب جداً للإنسان لا يستطيع الاستغناء عنه كيده اليمني .

لهذا يقول السيد المسيح ” أن كانت يداك اليمني تعثرك فاقطعها و القها عنك لأنه خيرا لك أن يهلك أحد أعضائك و لا يلقي جسدك كله في جهنم ” ( مت 5 : 30 ) فهل جعلت يدك في أمان ؟ هل حفظتها من العثرات ؟ ليت يدك تعرف طريق الصوم فلا تعثرك و لا تعثر الآخرين .

 

77- صوم اليدين

الله لم يخلق لنا اليدين لكي نعمل بها الشر بل لنعمل الخير ، لم يخلقها للسرقة أو الهدم ، و الضرب ، و التزوير ، و لعب الميسر ، لم يجعلهما لكتابة رسائل الغرام ، و أشعار العشق ، و نشر الآراء الفاسدة ، أو لنخط بها إمضاء مزورا أو مقالا بذيئا أو خطابات تهديد أو عرائض انتقام … كلا … كلا ، و لكنه خلقهما لكي نخدم بهما الناس لا لكي لا نسبهم و نسئ إليهم. خلقهما لا لكي ننجس بهما ذواتنا بل لكي نحفظهما طاهرتين و نعمل بهما كل ما يؤول  بالخير و البنيان ” لا تمنع الخير عن أهله حين يكون في طاقة يدك أن تفعله ” ( أم 3 : 27 ) .

و إذا فتشنا الكتاب المقدس نجد أمثلة حسنة للذين صانوا أيديهم عن الشر و عملوا بها الصالحات أنهم أصحاب الأيادي الصائمة عن الشر ، فأيوب كفها عن الظلم و قال ” مع أنه لا ظلم في يدي ” ( أي 16 : 17 ) ، و داود طهرهما من الدنس و قال ” أغسل يدي في النقاوة فأطوف بمذبحك ” ( مز 26 : 6 ) ، و كان يبسطهما أمام الله مصليا ” باسمك أرفع يدي ” ( مز 63 : 4 ) ” دعوتك يا رب كل يوم . بسط إليك يدي ” ( مز 88 : 9 ) ، و القديس بولس الرسول خصص يديه لخدمة الكنائس كما قال ” فإن حاجاتي و حاجات الذين معي خدمتها هاتان اليدان ” ( أع 20 : 34 ) ، و ربنا يسوع المسيح له المجد مد يديه لشفاء المرضي و تطهير البرص ، و إقامة الموتى ، و أشار بهما لكي يعظ الجموع و يعلمهم ، و رفعهما لينتهر الرياح و الأمواج الثائرة ، و استخدمها في كسر الخبز للتلاميذ و في غسل أرجلهم . و بالجملة لم تمتد يداه إلا بالخدمة البشرية و إسعادها ، حتى أنه أخيرا مد يديه و رجليه علي الصليب ، و تم قول الكتاب ” ثقبوا يدي و رجلي ” ( مز 22 : 16 ) و كل هذه الدروس السامية تعلمنا فيما ينبغي أن نستخدم أيدينا . فهل يديك صائمة .

 

78- بأي وجه و أياديهم غير صائمة

 لست أدري بأي وجه يقف المصلي ليرفع يديه إلي الله مع أن يديه اشتركتا في عمل الآثام ، لا شك في أن الله يكره صلاته و ينكر تسبيحه لأن ” ذبيحة الأشرار مكرهة الرب ” ( أم 15 : 8 ) . لقد أوصي الرسول قائلا ” رافعين أيادي طاهرة ” ( 1 تي 2 : 8 ) ، كيف تكون حالة الخاطئ الأثيم إذا وقف مصليا ، أو إذا مثل أمام الله في الموقف العظيم بأيد نجسة و أصابع دنسه ، لا شك في أن الله سيطرده و يقيد يديه و رجليه ليطرح في النار ( مت 22 : 13 ) . أه لو عرفنا كم هي كرامة الأيدي الصائمة . فالله يكافئ أصحاب الأيدي الصائمة الطاهرة خير مكافأة و يجازي أصحاب الأيدي الدنسة شر الجزاء . لأنه يقول عن الفريق الأول ” طوبى للإنسان الذي يعمل هذا و لابن الإنسان الذي يتمسك به الحافظ السبت لئلا ينجسه و الحافظ يده من كل شر ” ( أش 56 : 2 ) ” أما الصديق فيستمسك بطريقه ، الطاهر اليدين يزداد قوة ” ( أي 17 : 9 ) ، و يقول عن الفريق الثاني ” أعطيهم حسب فعلهم و حسب شر أعمالهم ، حسب صنع أيديهم أعطهم. رد عليهم معاملتهم”(مز 28 : 4).

 

79- الحصان الجامح و المشبوهين

إذا حدثت ثورة أو اضطرابات أو احتفالات شعبية تعمد إدارة الأمن العام إلي إلقاء القبض علي المشبوهين و الغوغاء ، و تقيدهم أو تزجهم في المحابس حتى لا يساعدوا علي الاضطراب و لا يعبثوا بالأمن و لا يساعدوا العدو المغير حتى تتمكن الحكومة من عملية القمع و تهدئة البلاد و حتى تنتهي الحفلات الشعبية بسلام .

و هكذا إذا ما ذل الجسد و شهواته و ميوله بالصوم تتقوى الروح و يكون في استطاعتها أن تستخدم الجسد آلة للبر عوضا عن أن يقودها معه غلي مهاوي الشر و الهوان و هذا ما عناه القديس  بولس الرسول عندما قال : ” و إنما أقول اسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد ، لأن الجسد يشتهي ضد الروح ، و الروح يشتهي ضد الجسد ، و هذان يقاوم أحدهما الآخر ” ( غلا 5 : 16 ، 17 ) .

و من ذا الذي يعلم أن حصانه جموح و خطر في جموحه فيمتطيه دون أن يضع اللجام و الشكيمة في فمه ليملك زمامه و يأمن أخطاره !

و هكذا الجسد الجموح علي طول خط الحياة و يمر بنا كل يوم علي مهاو و حفر فإن لم يكن لجامه في يدينا أوردا موارد الهلاك و لذلك لابد لنا من أن نكون دائما كما كان بولس في أصوم كثيرة ” .

 

80- أقدس وسيلة للطهر و العفاف

الصوم المقدس هو أقدس وسيلة للطهر و العفاف و الحياة الروحية السامية و هنا نتذكر ما جاء في صلاة القسمة بالقداس الإلهي بالصوم الكبير حيث يقول الكاهن .

” أيها السيد الرب الإله ضابط الكل الذي أرسل ابنه الوحيد إلي العالم ، علمنا الناموس و الوصايا المكتوبة في الإنجيل المقدس ، و علمنا أن الصوم و الصلاة هما اللذان يخرجان الشياطين إذا قلنا أن هذا الجنس لا يخرج إلا بالصلاة والصوم”.

و الصوم و الصلاة هما اللذان رفعا إيليا إلي السماء و خلصا دانيال من جب الأسود … الصوم و الصلاة هما اللذان عمل بهما موسى حتى أخذ الناموس و الوصايا المكتوبة بإصبع الله … الصوم و الصلاة هما اللذان عمل بهما أهل نينوى فرحمهم الله و غفر لهم خطياهم ورفع غضبه عنهم … الصوم و الصلاة هما اللذان عمل بهم الأنبياء … و تنبئوا من أجل مجيء المسيح قبل مجيئه بأجيال كثيرة … الصوم و الصلاة هما اللذان عمل بهما الرسل و بشروا في جميع الأمم و صيروهم مسيحيين و عمدوهم باسم الآب و الابن و الروح القدس .

… الصوم و الصلاة هما اللذان عمل بهما الشهداء حتى سفكوا دماءهم من أجل اسم المسيح الذي اعترف الاعتراف الحسن أمام بيلاطس البنطي … … الصوم و الصلاة هما اللذان عمل بهما الأبرار و الصديقون و لباس الصليب و سكنوا في الجبال و البراري و شقوق الأرض من أجل عظم محبتهم  في الملك المسيح .

و نحن أيضا فلنصم عن كل شر بطهارة و بر حتى نكون دائما مستعدين للتقدم إلي الأسرار الإلهية بمحبة و قداسة و شكر .

 

81- صوم العين

العين للجسد سراج و نور ، كما أن نور الشمس ينير للعالم كله ، و بها يري الإنسان كل الخيرات التي أوجدها الله لعبيده من سماء و كواكب و قمر و شمس و مياه و أنهار و خضرة و طيور و جمال الطبيعة الرائع ليمجد الخالق علي ما خلق . كما أنه بها يري الفساد و كل شيء قبيح . و أسمي ما يقال في هذه المناسبة هو قول السيد المسيح له المجد :

” سرج الجسد هو العين … فإن كانت عينك بسيطة فحسدك كله يكون نيرا ، و إن كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلماً ” ( مت 6 : 22 ، 23 ) .

و كما قال أيضا ” فإن كانت عينك اليمني تعثرك فأقلعها و ألقها عنك لأنه خيرا لك أن يهلك أحد أعضائك لا يلقي جسدك كله في جهنم ” ( مت 5 : 29 ) .

و العين في الجسد هي كالعقل في النفس ، فإذا وجد إنسان غير عاقل  مجنون فهو وإن كان حيا بالجسد إلا أنه يعتبر كميت ، هكذا العين الشريرة التي تنظر إلي الشر دون رادع أو خوف أو حياء فإنها تقتل النفس و الجسد معا و يصير الإنسان نهبا لزيغان عينه فلا يستطيع أن يركز علي شيء روحي سام ، و تشتت أفكاره فيما يري من شرور و عثرات وتعتريه طياشه العقل و الفكر و القلب و يكون دائما مغلوبا من الشر نتيجة طياشة عينه .

و لنعلم أن آدم و حواء لم يسقطا إلا بشهوة العين التي شجعت حواء علي الآكل و بعدها آدم. و داود في خطيتي الزنا و القتل إلا بسبب نظرة العين المنحرفة ، و تسعين في المائة من الذين يهلكوا تكون العي ن شريرة سبب هلاكهم .

لهذا يجب نقمع العين عن نظرة الشر و نصومها عن التلذذ به لان منها يدخل الموت إلي النفس .

و يكفينا اقتناعا بهذه الحقيقة قول المسيح الإله في هذا الصدد : ” من نظر إلي أمر و اشتهاها فقد زني بها في قلبه ” .

 

82- صوم العين و الطمع

يوضح الكتاب المقدس أن العين سراج الجسد أي إنها نوره و ضياءه . و لا تكن العين نورا حقيقيا صافيا إن لم تكن عينا طاهرة ، أما إذا تنجست بالنظرات  الفاسدة فإنها تصبح مصدر ظلام لا مصدر نور لهذا يقول السيد المسيح ” فإن كان النور الذي فيك ظلاما فالظلام كم يكون ” ( مت 6 : 23 ) .

و بما أن العينين قائدة الجسم فهي أما تقوده إلي الخصب أو إلي الجدب ، غلي الحياة الأبدية أو إلي الموت الأبدي ، فكما أن قائد الجيش إذا أخطأ في سيره أثر خطأه علي الجيش بأسره ، و كما أن ربان السفينة إذا سار في طريق غير أمنه عرض سفينته للعطب ، هكذا عين الإنسان قد تعرضا صاحبهما للأخطار العديدة بنظراتهما الرديئة لذلك وجب علينا أن نجعل عيوننا عيون صائمة .

هناك أنواع عديدة من الأعين غير الصائمة تسوق أصحابها تسوق أصحابها إلي المعاطب ، و تجلب الويلات علي الناس .

فهناك العين الطامعة التي تنظر غلي ممتلكات العالم و أمواله و زخارفه فتفتن بها و تعشقها ، و تجعل القلب بسبب نظرتها الشريرة ميالا لاقتناء الفانيات فقط و منصرفا عن الباقيات . تخدعه العين بمناظر القصور العالية و الحدائق الواسعة ، و الممتلكات الفسيحة و الضياع المتنائية الأطراف ، و تجذبه بالذهب اللامع ، و الفضة البراقة و اللآلئ الثمينة ، و في نفس الوقت تنصرف انصرفا كليا عن جمال السماء و التأمل في الكنوز الباقية التي قال عنها الكتاب ” لا تكنزوا لكم كنوزا علي الأرض حيث يفسد السوس و الصدأ و حيث ينقب السارقون و يسرقون بل اكنزوا لكم كنوزا في السماء حيث لا ينقب السارقون و لا يسرقون ” ( مت 6 : 19 ، 20 ) .

تلك العين الطامعة هي التي تنزع القناعة من الإنسان و تجعله جشعا شريرا ، لا يهنأ له بال ، و لا يهدأ له حال حتى يصبح غنيا أو ثريا أو قويا ، و حتى و أن اصبح كذلك ، فإنه لا يقنع أيضا ، بل يطلب المزيد و تصبح حياته حياة مادية ليس للروحانية فيها نصيب ، ما أخطر العيون التي لم تعرف طريق الصوم .

لما أراد الشيطان أن يجرب السيد المسيح له المجد و يجتذب للسجود له  أراه جميع ممالك العالم و قال له ” أعطيك هذه جميعا إن خررت و سجدت لي ” ( مت 4 : 9 ) و كذلك هو في كل حين لا يفتأ يعرض علينا هذه الأباطيل لكي يصرفنا عن الأمور النافعة . و العاقل هو الذي يحجب عينيه عن النظر غليها و لا يغتر بمظاهرها , بل يتأمل في حقيقة حالها . فالذهب و الفضة يصدأن . و الثياب يأكلها العث ، و الممتلكات تؤول إلي البوار ، و القصور إلي الدمار لأنه ” باطل الأباطيل الكل باطل و قبض الريح ” ( جا 1 : 2 ، 20 : 11 ) .

و هب أن صاحب هذه العين الطامعة الجشعة قد أصبح أغني الناس ، فغناه الوافر لن يشبعه ، و ثروته الطائلة لن تغمض عينيه عن النظر و الاشتهاء لأن ” العين لا تشبع من النظر و الأذن لا تمتلئ من السمع ” ( جا 1 : 8 ) ” الهاوية و الهلاك لا يشبعان و كذا عينا الإنسان لا تشبعان ” ( أم 27 : 20 ) .

 

83- السقوط للعيون التي لم تعرف الصوم

منذ بدء الخليقة و العين تسبب إسقاط الكثيرين من الأبرار و الأقوياء ، فحواء لم تأكل من الشجرة إلا لما رأتها بهجة العيون و شهية للنظر ( تك 3 : 6 ) . و امرأة فوطيفار لم تطلب من يوسف أن يعمل الخطيئة إلا لما رفعت إليه عينيها ( تك 39 : 7 ) ، و داود لم يقدم علي خطيتى الزنا و القتل إلا لما رأي امرأة أوربا الحثي تستحم علي سطح منزلها ، ( 2 صم 11 : 2 ) ، و شكيم زني بدينة أبنة يهوذا و جر الويل علي مدينته لما نظر جمالها الباهر ( تك 34 ) ، و شمشون أباح لدليلة بكل ما في قلبه و أوقع نفسه في الخطر لما خدعة جمالها(قض16)، والشيخان اليهوديان حاولا عمل الخطية لما وقع نظرهما علي سوسنة العفيفة و هي تتمشى في  حديقتها(دا13)، وأولاد الله لما رأوا بنات الناس أنهن حسنوات تزوجوا منهن وأثموا فكان إثمهم سببا في جلب الطوفان علي العالم(تك6)، وسليمان عبد الآلهة الغريبة لالتصاقه بالأجنبيات، ولأن كل ما اشتهته عيناه لم يمسكه عنهما(جا2: 10)، وأمونون أذل أخته ثامار عندما تمعن في جمالها(2صم13) .

فما أقصي النظرة ، و ما أخطرها ، و ما أعظم سلطانها ، لم تقف أمامها بساطة حواء أو عظمة امرأة فوطيفار أو بر داود أو قوة شمشون أو شيخوخة الشيخين ، لم تعترضهما حكمة السليمان ، أو كون أمونون أخا لثامار و أهل شكيم غرباء عن يهوذا و إذا كان هؤلاء جميعا قد تأثروا بالنظرة فكذلك يتأثر بها جميع الرجال و السيدات علي حد السواء ، فهل بعد ذلك نصر علي ترك عيوننا كم يعد غبيا الذي يتطلع العاريات أو يقتني الصور الرديئة و يعلقها بمنزله لكي يشاهدها في كل لحظة، أو يشغف بالنظر إلي الحسان من الشابات و الشبان ، لأنه يسقط نفسه في أقسى الأشراك و يوقعها في اشد الورطات، و يطبق علي نفسه قول الكتاب عن الاثمة ” لهم عيزن مملوءة فسقا ” ( 2 بط 2 : 14 ) .

إن ايوب الصديق لكي يتقي شر هذه النظرة قال ” عهدا قطعت لعيني فكيف أتطلع في عذراء ” ( أي 31 : 1 ) ، لأنه علم أن النظرة تجلب وراءها خطايا عديدة ، و تجذب وراءها الفكر و القلب حتى أنه قال أيضا ” إن حادت خطوتي عن الطريق و ذهب قلبي وراء عيني”(أي31: 7 ) فلو كنا حكماء كنا نقطع عيوننا هذا العهد المقدس ، و نكفها عن كل نظرة دنسة، ونغمضها عند رؤية آيه صورة قبيحة أو منظر خلاب يثير الشهوة أو يهيج العاطفة، ما أعظم صوم العين وما أخطر إهماله.

 

84- العين الصائمة و جمال المسيح

تأمل دائما بعيني قلبك في جمال السيد المسيح ، و في بهاء السماء ، و قل مع اليونانيين ” نريد أن نري يسوع ( يو 12 : 21 ) ، و مع فيلبس ” أرنا الآب و كفانا ” ( يو 14 : 8 ) ، و مع داود ” عيناي دائما إلي الرب ” ( مز 25 : 15 ) ” إليك رفعت عيني يا ساكنا في السماوات ” ( مز 123 : 1 ) و إذا كنت تشعر بأن العين تحاربك و المناظر الأرضية تستميلك إليها فأحذر من إطاعتها ، بل أغلق عنها مقلتيك إغلاقا تاماً و صل دائما مع المرتل ” أنر عيني لئلا أنام نوم الموت ” ( مز 13 : 3 ) ” حول عيني من النظر إلي الباطل ” ( 119 : 37 ) .

لا تنظر و لا نظرة واحدة إلي منظر يعثرك أحفظ صوم عينيك طاهرا نقيا ، و لا تسمح لصورة ما أن تستوقف عينيك ، إذا كان هذا يؤثر علي سلامة فكرك حتى تأمن العثرات . لا تسر في طريقك تنظر ذات اليمين و ذات اليسار حتى تنبح ث عن المناظر الشهية و الجميلة ، بل ” لتنظر عيناك قدامك و أجفانك إلي الأمام مستقيماً ” ( آم 4 : 25 ) .

يقول القديس نيلس : ” احتفظ بأبواب عينك فقد اعتادت سهام الشر الدخول من هذه الأبواب ” .

يقول الأنبا إشعياء : ” احتفظ بقلبك و عينيك فلن يصيبك بأس في جميع أيام حياتك ” .

يقول القديس أنبا موسى : ” أحفظ عينيك لئلا يمتلئ قلبك أشباحاً خفية ” .

يقول القديس باسيليوس : ” أبتعد من نظر و سماع ما لا يفيد تتخلص من فعل ما لا يفيد ” .

يقول القديس يوحنا القصير : ” لا يكن بين عينيك شيء مشتهي لكي ما تبصر الله ” .

و قال شيخ : ” تحفظ من النظر و الحديث لأنهما أسباب الخطيئة ” .

 

85- العين غير الصائمة و الخطية

الخطية الشائعة التي تقع فيها العين غير الصائمة هي خطية النظرة الرديئة . فالعين تميل إلي التطلع إلي الصور الخليعة ، و الوجوه الجميلة و الأجسام النضرة ، فتنق لب نظراتها إلي شهوة رديئة تنغص عيش أصحابها و تذيقهم كؤوس القلق و الألم .

كم من شبان لا تمر بهم فتاة أو سيدة إلا يطيلون النظر إليها ، و يحدقون في وجهها و جسمها من أخمص القدم إلي أعلي الرأس ، و كم من رجال يترددون علي دور الملاهي و السينما لمشاهدة روايات الخلاعة لكي يمتعوا نظراتهم برؤية الجمال الباطل ، و يزورون دور الرقص و التمثيل و يطيلون بها السهر ، حتى ينظروا وجوه المغنيات و أجسام الممثلات و الراقصات ، و هم مع ذلك لا يدرون أنهم يسيئون استعمال أعينهم التي لم تخلق لهذه النقائص .

و لكن يا ليت أصحاب هذه العيون الفاسدة يقدرون النتائج الخطيرة التي تجلبها عليهم عيونهم من جراء نظراتها الشريرة ، فصورة هذه المناظر متى انطبعت علي مخيلة المرء كانت سببا في تنغيص عيشة و تهديده في كل ساعة ، فهي تحضره في أوقات مختلفة ، و تنجس تصوره ، و تبلبل أفكاره ، و تشتت عقله  و تسبب له التصورات القبيحة و الرؤى و الأحلام الفاسدة .

لا بد و أن تحبل هذه النظرة فتلد الفكرة ، و سرعان ما تكبر الفكرة فتخلق في الإنسان عشق الخطية و الميل إلي عملها، ثم يتطور هذا الميل فيقدم الشخص علي ارتكاب الخطية بالفعل و لهذا يقول القديس أغسطينوس ” نظرة ففكرة فهيام فسقوط ” و ليس في هذا أدني شك فإن معظم الأفكار الرديئة و التصورات النجسة ، و الآلام الجسدية الكثيرة ، بل و الخطايا الفعلية الأليمة يكون منشأها في الغالب مجرد النظر في وجه فتاة ، أو رؤية منظر خالي من الحشمة أو التأمل في صورة قبيحة .

فلكي نستأصل الخطية علينا أن نقتلها من منبتها . من أراد أن يتقي شر الحشرات الفتاكة عليه أن يبحث عن البويضات ليبيدها ، و من يرغب في صد هجمات الأعداء عليه قبل كل شيء . تحصين الأبواب و إغلاقها . و كذلك من أراد أن يصون جسده و يتقي شر الخطية ، عليه أن يغلق عينية و يمنعها كلية عن النظر الباطل . عليه يصوم العين ففيه صيانتها .

أن السيد المسيح لكي يرينا خطورة النظرة الرديئة . قال ” كل من ينظر إلي امرأة ليشتهيها فقد زني بها في قلبه ” ( مت 5 : 28 ) و ليس في هذا عجب فما دام المرء قد نظر إلي الخطية و أشتهي فعلها فإنه يقدم علي فعلها متى كان ذلك في استطاعته . فليست الخطية هي مجرد الفعل بل هي الفكر و النية أيضا . كما يق ول القديس بولس الرسول ” كل واحد ينوي بقلبه ” ( 2 كو 9 : 7 ) .

 

86- العين التي لا تصوم هي عمياء

لقد كان آدم قبل السقوط ذا عين بسيطة ، فبالرغم من وجوده مع حواء ، و بالرغم من أنه و إياها كانا عريانين ، إلا أنهما لم يخجلا و لم تنطلق إلي فكريهما الأفكار الأثيمة ، التي أصبحت تملأ عقول الناس ، و لكنهما لما سقطا انفتحت أعينهما و عرفا أنهما عريانان ( تك 3 : 7 ) انفتحت العين الجسدية المظلمة و أظلمت العين الروحية المنيرة ، و هكذا كل من تملأ عينه غلي الأمور الفاسدة يمكنك أن تلقبه بأنه ذو عين مظلمة ، و بالعكس من يحول عينيه عنها و يتأمل في أشياء طاهرة تكون عينه عينا بسيطا نقية .

و السيد المسيح يسمى الأشرار أصحاب العيون التي لا تعرف الصوم ” الناظرين إلي أمور العالم عمياناً ، فيقول لليهود ” لو كنتم عميانا لما كانت لكم خطية ، و لكن الآن تقولون إننا نبصر فخطيتكم باقية ” ( يو 9 : 41 ) . و يقول عن الفريسين ” هم عميان قادة عميان ” ( مت 15 : 14 ) و لقد يحسب صاحب العين الشريرة أنه سعيد مع أنه في الحقيقة تعيس جدا . و كان خيرا له أنه ولد أعمي محروما من حاسة البصر من وجوده بعينين ينظر بهما إلي  أسباب الهلاك و الدمار .

فالإنسان بصران بصر روحي خفي ، و يصر جسدي طاهر . و يصير الجسد ر يعتبر شيئا بجانب بصيرة الروح . فلكم من عميان تراهم محرومين من العيون و لكن بصائرهم الروحية قوية ، و بالعكس كم من مبصرين بعيونهم و لكن أرواحهم مغمضة ، يتم عليهم ق ول الكتاب ” مبصرين لا يبصرون و سامعين لا يسمعون ” ( مت 13 : 13 ) ” ألكم أعين و لا تبصرون و لكم آذان و لا تسمعون و لا تذكرون ” ( مر 8 : 18 ) و بقدر ما يفتح الإنسان عين جسده و يسمح لها بالنظر إلي الباطل بقدر ما تغمض عين روحة للنظر إلي السمائيات ، و بالعكس كلما كفت العيون الجسدية عن النظر الباطل و صامت عن شرور العالم استنارت بصيرة الروح و قوى نظرها .

 

87- صوم عينيك عن عبادة الزائلات و الجسديات

صوم عينيك عن عبادة الزائلات و الجسديات حتى يتفرغ قلبك للنظر إلي الأمور الروحية لأنه لا يمكنك أن تمتع عين جسدك و عين روحك في وقت واحد ، و هاك جميع  القديسين قد صرفوا النظر عن كل ما علي الأرض لكي يتفرغوا للتأمل في الأمور السمائية كما يقول الرسول ” نحن غير ناظرين إلي الأشياء التي تري بل إلي التي تري وقتية و أما التي لا تري فأبدية ” ( 2 كو 4 : 18 ) .

فبعينيك فتش الكتب المقدسة ، و أقرا المواعظ و التعاليم حتى تشارك داود في قوله ” كلت عيناي من النظر إلي قولك ” ( مز 119 : 82 ) ، عوض أن تزرف دموع عينيك علي أمور العالم الباطلة أذرفها علي خطياك و آثامك وردد هذا القول ” تعبت في تنهدي . أعوام في كل ليلة بدموعي أذوب فراشي ساخت من الغم عيني ” ( مز 6 : 6 ، 7 ) أنظر بعينيك إلي المساكين و الفقراء حتى يتسنى لك أن ترثي لهم و تساعدهم لأن ” الصالح العين هو يبارك لأنه يعطي من خبزه للفقير ” ( أم 22 : 9 ) .

بدل أن تتأمل في محاسن الصور و جمالها الظاهري تأمل فيما يزول إليه هذا الجمال ، فعرض أن تنظر إلي القصور أنظر إلي القبور ، و عوض أن تتأمل في بيوت الأغنياء و مبانيهم الضخمة تأمل في الخرائب و الأطلال التي كانت من قبل مباني شاهقة و قصور مشيدة ، عوض أن تؤخذ بالوجوه الجميلة أمعن بنظرك في جثث الموتى و أشلاء الذين في القبور حتى تقف علي حقيقة الأمور و تري الصورة لكل مناظر العالم الخادعة .

لماذا تأنف النظر إلي أكواخ الفقراء و بيوت المساكين ؟ و لماذا تغمض عينيك إذا شاهدت مقعداً أو مريضا أو جريحا أو مصابا  إنك كلما تأملت في مثل هذه المناظر المؤلمة اكتسبت عظة و اعتباراً ، و بالعكس كلما نظرت إلي رونق الحياة و زخارفها تعرضت للأخطار ليتك الآن تطلب معونة الله يهبك بنعمته صوماً حقيقيا لعينيك فتطهر .

 

88- صوم عينيك عن حسد الآخرين

العين الحاسدة التي تنظر إلي ما غيرها و تشتهيه ، و يعز عليها أن تري إنسانا متمتعا بنعمة أو مالكا شيئا لا يمتلكه صاحبها يتمني صاحب هذه العين أن يتعرى الناس لكي يكتسي هو ، و أن يجوعوا ليشبع ، و أن يعطشوا ليرتوي ، و أن يعيش غيره معذبين فقراء لينفرد هو بالغني و الرفاهية .

هؤلاء الناس يعارضون الله في أحكامه و يودون أن يشاركوه أعماله . إذا وجدوا من هو أغني أو أقوي أو أجمل أو أعلم منهم تذمروا ، و إذا شاهدوا من صيته أحسن من صيتهم و مركزه أسمي من مراكزهم ، و شهرته أعظم من شهرتهم تألموا و صروا علي الأسنان لأن عيونهم شريرة ، لذلك يشير إليهم سليمان ” لا تأكل خبز ذي عين شريرة و لا تشته أطايبه لأنه كما شعر في نفسه هكذا هو . يقول لك كل و أشرب و قلبه ليس معك . اللقمة التي أكلتها تتقياها و تخسر كلماتك  الحلوة ” ( أم 23 : 6 ، 8 ) .

 

89- صوم عينيك عن انتقاد الآخرين

هناك عين شريرة همها أن تنتقد الناس و تفتش في عيوبهم ، لا لكي تعمل علي وعظهم و إصلاحهم ، بل لكي تدينهم و تحتقرهم و تشهر بهم ، فأصحابها يبررون أنفسهم و يدينون الآخرين ، مع أن المسيح ينصحهم ” لا تدينون لكي لا تدانوا لأنكم بالدينونة التي بها تدينون تدانون و بالكيل الذي تكيلون يكال لكم ” ( مت 7 : 1 ، 2 ) و القديس يعقوب الرسول يتحداهم قائلا ” فمن أنت يا من تدين غيرك ” ( يع 4 : 12 ) . إن عيوننا لم تخلق لكي تفحص بها عيوب الناس بل عيوننا لم تخلق لكي نفحص بها عيوب الناس بل عيوننا ، و لو نظر المرء إلي عيوبه لما ذكر عيوب سواه ” ولماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها ، أم كيف تقول لأخيك دعني أخرج القذى من عينك وها الخشبة في عينك يا مرائي الخراج أولاً الخشبه من عينك وحينئذ تبصر جيداً أن تخرج القذى من عين أخيك”(مت7: 3-5).

 

90 الصوم والشهوات

للصوم وجوه عديدة النفع ، ونفعه لا يقف عند حد فإذا كان لازماً وضرورياً في أوقات خاصة فهو يكاد أن يكون تمريناً رياضياً يزاوله المؤمن دائماً ، وعندما أقول المؤمن لا أعني المؤمن النظري الذي يقف عند حد الإيمان المجرد .. لا بل أقصد المؤمن العامل المجاهد الذي يقول مع القديس بولس الرسول : البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكائد إبليس فإن مصارعتنا ليست مع دم و لحم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم علي ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية في السماويات . من أجل ذلك  احملوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ، ممنطقين احقاءكم بالحق و لابسين درع البر ، و حاذرين أرجلكم باستعداد إنجيل السلام حاملين فوق الكل ترس الإيمان الذي به تقدرون أن تطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة ( أف 6 : 12 ، 16 ) .

و العدو الداخلي و هو اشد خطراً من العدو الخارجي لأنه منا و فينا و كأمن في داخلنا ، هو الميل للخطية و الشهوات الدنيئة و التجارب الماكرة المخزية التي يتخذ منها الشيطان جواسيس تعمل لحسابه و تفتح له الأبواب ساعة الغفلة و هي لا تنقطع عن محاربة النفس بل هي عوائق الحياة الدينية فينا و سموم قاتلة لتعبداتنا .

فإذا كانت طبيعتنا البشرية لها ميولها الشريرة و جموحها و شهواتها و فساد الملازم لها .

و إذا كان الشيطان يستخدم هذه الميول الشريرة فينا للإيقاع بنا كان لابد لنا علي الدوام من الصوم و الأصوام الكثيرة و الطويلة المرتبة و غير المرتبة .

لأن الصوم لابد منه لصد هجمات الشيطان و إخراجه من القلاع التي يحتلها فينا كقول السيد المسيح عن الشيطان ” أن هذا الجنس لا يخرج إلا بالصوم و الصلاة ”

 كما أنه لازم و ضروري لإذلال ما فينا من ميول و شهوات قاتلة محاربة في أعضائنا كما كان يفعل داود النبي إذا قال : أذللت بالصوم نفسي ( مز 35 : 13 ) إذلالا وصفه بقوله ركبتاي ارتعشتا من الصوم و لحمي هزا عن سمن (109 : 24).

 

91 الصوم الداخلي

ينبغي أن يكون الصوم لا مجرد صوم خارجي بل صوماً داخلياً له قصد روحي وترافقه أعمال روحية ممتازة كما يقول أشعياء النبي : أليس هذا صوماً أختاره حل قيود الشر فك عقد النير وإطلاق المسجونين أحراراً وقطع كل نير . أليس أن تكسر للجائع خبزك وأن تدخل المساكين التائهين إلى بيتك وإذا رأيت عرياناً أن تكسوه وأن لا تتغاضى عن لحمك ” ( أش 58 : 3 7 ) فالرجل الصادق يؤدي واجبات صومه الروحي في ابتهاج فوجهه ” مغسول بالنقاوة التي هي أهم أغراض الصوم الذي نتقدم به أمام الله بالصلاة كقول السيد : ” طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله ” وكقول الرسول : ” القداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب”  ورأسه مدهون بالإحسان والرحمة لأنه إذا كان جوعه لا يشعره بألم الجوع الذي يعانيه الفقير والمسكين فما معنى صومه وقد جعل الصوم وسيلة من الوسائل المهذبة للعواطف والقلب”ليعينوا المجربين”

 

92 الصوم و الزهد

إذا وضعنا مصباحاً منيراً خلف حاجز من الزجاج كام من السهل أن ترى نور الصباح ، وبقدر ما يكون الحاجز شفافاً بقدر ما يكون النور ظاهراً واضحاً ، وبعكس ذلك استبدال الحاجز الزجاجي بحاجز من الخشب لا يمكن أن يرى النور ، وهذا عين ما يحصل للروح مع الجسد ، إن نحن أتخمنا الجسد ولذذناه أصبح كثيفاً ، وحينئذ لا يمكن للروح أن تظهر ، وأما إذا أقمعناه وزهدنا في رغباته أصبح شفافاً و حينئذ تكون الروح حرة . ألا ترى كيف أن العقل يشعر بصعوبة في التفكير بعد الأكل الثقيل مباشرة ؟ هكذا الروح تشعر بالتقييد ما دام الجسد ملذذاً متجبراً . ولذلك لما زهد القديسون استنارت أرواحهم وتمكنوا من معرفة أمور مستقبلية ورؤية أشياء وقعت في أماكن بعيدة ، أما المنهمكون في الجسديات فيظلون في القلق الدائم و العمى الروحي و يتم عليهم قول الكتاب ” من أين الحروب و الخصومات بينكم ؟ أليست من هنا من لذاتكم المحاربة في أعضائكم ؟ تشتهون ولستم تمتلكون لأنكم لا تطلبون . تطلبون ولستم تأخذون لأنكم تطلبون ردياً لكي تنفقوا في لذاتكم “(يع 4 : 1 3).

فالزهد و الصوم أيها المسيحي . تعلم كيف ترضى بالقليل ، ولا تضطرب من أجل أمور الجسد إذا كنت لا تملك منها إلا اليسير ، أزهد وتعفف حتى تنتصر على شهواتك ، وتعيش سيداً على أهوائك .

 

93 الأديان و الصوم

لقد أدرك جميع أصحاب الأديان ما للصوم من فوائد روحية حتى الوثنيين أنفسهم فجعلوها من أكبر الوسائل الفعالة لترويض النفس و تهذيبها .

ففي العهد القديم قد فرض الصوم على الجماعة وترتيب له أوقات خاصة معينة كما نقرأ في نبوة ذكريا قوله ” هكذا قال رب الجنود أن صوم الشهر الرابع و صوم الخامس و صوم السابع وصوم العاشر يكون لبيت يهوذا ابتهاجاً وفرحاً و أعياد طيبة ” ( زك 8 : 19 ) وهذا عدا ما كان يفرضه الملوك و الأنبياء و الكهنة من أصوام في مناسبات و ظروف و أحوال مختلفة كأزمنة أحكام الله ( يؤ 1 : 14 ) وفي المصائب العامة كما في ( 2 صم 1 : 12 ) ولدى اقتراب الخطر ( أش 4 : 16 ) هذا عدا أصوام فردية كصوم داود عندما مرض أبنه ( 2 صم 13 : 16 ) وفي أحوال أخرى لإذلال نفسه ( مز 35 : 13 ) و ( 109 : 24 ) وكصوم دانيال ( دا 9 : 3 ) ونحميا ( 1 : 4 ) .

وكيف لا تقدس ديانة اليهود وقد جاءت شريعتهم على يد موسى النبي بعدما صام أربعين يوماً و أربعين ليلة .

وكذا شريعة العهد الجديد وكنيسة المسيح ترى الصوم فيها الكل وفي الكل وكيف لا يكون الصوم كذلك وقد أفتتح السيد المسيح عمله على الأرض بالصوم أربعين يوماً و أربعين ليلة كما صام قبله قديماً موسى و إيليا .

وقد أعتبر صوم السيد المسيح له المجد تقديساً للصوم فتابعه الرسل لا سيما وأن السيد المسيح كان قد قال لهم عندما سألوه لماذا لم نستطع نحن ان نخرج الشيطان من هذا الولد ؟ أجابهم السيد المسيح قائلاً ” إن هذا الجنس لا يخرج إلا بالصوم و الصلاة ” فكانت كل خدمتهم بعد صعود السيد المسيح له المجد مقرونة بالصوم حسب قول سيدهم ” عندما يرفع العريس عنهم فحينئذ يصومون ” وسفر الأعمال عامر بذكر الصوم فقد جاء في الإصحاح ( 13 : 2 ) قوله ” وبينما هم يخدمون الرب ويصومون قال الروح القدس افرزوا لي برنابا و شاول للعمل الذي دعوتهما إليه ” وفي ( ص 14 : 20 ) يقول ” انتخبا لهم قسوساً في كل كنيسة ثم صليا بأصوام واستودعاهم للرب ”  .

ويقول القديس بولس الرسول : بل في كل شئ نظهر أنفسنا كخدام لله .. في أصوام ( 2 كو 6 5 ) وفي موضع آخر يقول في أصوام كثيرة ( 2 كو 11 : 27 ) .

 

94 مات من الأكل

كثيرون مالوا إلى الشراهة وعبدوا بطونهم فنسوا في سبيل ذلك طريق الله وغضوا نظرهم عن وصاياه ، لأنهم لم يستطيعوا أن يحيوا لبطونهم ولله في وقت واحد ، فعيسو لأجل أكلة واحدة من العدس باع بكوريته ( تك 25 ) ، و أولاد عالي كانوا يأكلون اللحم من الآتين إلى العيد ليقدموا ذبيحة للرب فكانت خطيتهم عظيمة جداً أمام الرب لأنهم استهانوا بالتقدمة وجعلوا الناس يستهينون بها ( 1 صم 2 : 12 17 ) . وبنو إسرائيل لما خرجوا من أرض مصر أخذوا يتذمرون على الرب ويقولون لموسى و هارون ” ليتنا متنا بيد الرب في أرض مصر إذ كنا جالسين عند قدور اللحم نأكل خبزنا للشبع فأنكما أخرجتمانا إلى هذا الجمهور بالجوع ” ( خر 16 : 9 ) ، وحتى بعد أن أعطاهم الله المن عادوا يتذمرون ويبكون قائلين ” من يطعمنا لحماً . قد تذكرنا السمك الذي كنا نأكله مجاناً في مصر و القثاء و البطيخ و الكراث و البصل و الثوم و الآن قد يبست أنفسنا و ليس شئ غير أن أعيننا إلى هذا المن ” ( عد 11 : 6 ) حتى أن تذمرهم وشراهتهم جلبا عليهما غضب الله، فأنه لما أرسل إليهم السلوى أخذوا يجمعون منها ويأكلون بشراهة ” وإذ كان اللحم بعد في أسنانهم قبل أن ينقطع حمى غضب الرب على الشعب وضرب الرب الشعب ضربة عظيمة جداً ” ( عد 11 : 23 ) .

لقد ورد أن سكياموني ” بوذا ” الذي يتعبد له فريق كبير من الهنود مات بسبب تناوله أكلة كبيرة من لحم الخنزير و الأرز، وهكذا الشراهة كثيراً ما تتخم أصحابها وتقتلهم ، لذلك يقول أبن سيراخ ” لا تشره إلى كل لذة ولا تنصب على الأطعمة فإن كثرة الأكل تهيض الأكل والشره يبلغ إلى المغص. كثيرون هلكوا من الشره أما القنوع فيزداد حياة”(سيراخ37: 32-34).

ماذا يظن هؤلاء الشرهون النهمون ؟ أيسمنون جسومهم ويقوون أبدانهم ليقدموها ولائم فاخرة للدود و الحشرات التي سوف تأكلها بعد قليل ؟ هل يخافون أن يضعفوا إذ هم أكلوا باعتدال ؟ هوذا الرسول يقول ” إن أكلنا لا نزيد و إن لم نأكل لا ننقص ” ( 1 كو 8 : 8 ) .

فما اجمل أن ننزه أنفسنا عن تلك الصفة القبيحة ونجل شعارنا دائماً قول سليمان ” لا تعطني فقراً و لا غنى . أطعمني خبز فريضتي ” ( أم 10 : 18 ) وقل مخلصنا الصالح ” خبزنا كفافنا أعطنا اليوم ” ( مت 6 : 11 ) . ولنذكر أن القاعدة الصحيحة في كل شئ هي الاعتدال أي عدم التفريط أو الإفراط فلا يسوغ أن يحرم أحد جسده من الأكل حتى أن يضعف . أو يتخمه حتى يمرض .

 

95 القداسة الحقيقية و القداسة المزيفة :

إن القداسة الحقيقية و التظاهر نقيضان لأن الغرض من الصوم كما قلنا هو محاربة الميول الفاسدة فكيف يتخذون من الصوم الذي جعل لمحاربة هذه الميول فرصة للتظاهر بالقداسة وطلب المديح من الناس وجعل الصوم فناً من فنون الخديعة.

إن القداسة تنموا فقط في جو الإحساس السائد و الاعتقاد الراسخ في أن كل قداسة بشرية مستمدة من قداسة الله ولذلك قال السيد المسيح : لكي لا تظهر للناس صائماً بل لأبيك الذي في الخفاء ” فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية ” .

قال أحد الأتقياء : ” إن الصوم ينبغي أن يظهرك ولكن لا ينبغي لك أن تظهر صومك ” وقال آخر ” لنحتفظ بصومنا في داخلنا إلى أن نكون في السماء على انفراد وحينئذ نلقي أمام عرش الرحمة كل حزن و خزي وخطيئة ” .

إن المؤمن الشاعر بحرج الموقف الروحي و الجاد في طريق النصر الحقيقي لا يهتم مطلقاً بالمظهر الخارجي بل كل قلبه يتجه إلى التوبة الصادقة لأن الموقف يستلزم البعد عن فنون الخديعة و التظاهر . فداود النبي إذ رأي نفسه أمام خطر كبير وعدو جبار كجليات لم يبال بمظاهر الحرب ولا أهتم بملابس الحرب الرسمية ذات الدروع و الجلال بل عمد إلى مقلاعه الحقير وراح يبطش بعد شعبه وبني جنسه .

ليس للمسيحي أن يظهر صومه لا بالكلام ولا بالإشارة ولكن إذا ما أعلن الصوم ذاته في ضوء حياة الصائم فالصائم غير مسئول عن هذا الظهور بل يكون ظهوراً حسب الوعد القائل “وأبوك السماوي يجازيك علانية ” و الصائم في هذه الحالة يكون آخر من يعلم بهذا الظهور.

وقد يساعد الإنسان أخاه على تهذيب النفس بواسطة القدوة ولكن ليس الإنسان مكلفاً أن يرى أخاه عملية تهذيب النفس لئلا تفسد عملية التهذيب فالنبات ينمو في التربة و الظلام فإذا ما تعرضت جذوره للظهور على السطح انكشفت كان تعرضها خطراً على حياة النبات .

إن الصوم جعل لضبط النفس كما أسلفنا القول فرغبتنا في إظهار صومنا للآخرين فشل لضبط النفس .

وقد جعل الصوم لإذلال النفس فكيف نعمل بالصوم على الحصول على رفع أنفسنا في نظر الناس و نيل مديحهم ؟ إن هذا الصنيع من شأنه أن يحول كبرياء الجسد إلى كبرياء القلب وهذا أكثر تدنيساً للحياة البشرية .

 

إن الصوم يجب أن يكون لله لا للبشر وقد عاتب الله اليهود بلسان ذكريا قائلاً ” هذه السبعين سنة فهل صمتم صوماً لي أنا ” ( زك 7 : 5 ) و القاعدة المسيحية هي أن ” نعيش للرب ” لأن شأننا معه هو فقط . وهو له المجد خفي عن العالم فيقابلنا في خفية عن العالم ويجازينا علانية .

 

96 الصوم و الطوائف التي تنكره

لقد شهد للصوم الطوائف الأخرى اعتبروه من الوسائل الضرورية للخلاص ورضى الله فقال لوثر ” إنه من الواجب ممارسة الصوم قبل الأعياد السيدية ” وقال كالفن : ” حتم الصوم على المسيحيين كافة ، و لا سيما عند انتخاب الرعاة ، و في الحوادث العظيمة وعند اشتداد الأزمات و وقوع الملمات مثل الحروب و الأوبئة و المجاعات ، و قال ” إن الصوم فرض إلهي مقدس يقمع شهوة الجسد و يحض على الصلاة و يدل على الصلاة ويدل على أتضاع الإنسان أمام الله ” .

وقال أيضاً : إذا امتلأت البطون ابتعدت النفوس عن الله .

وجاء في كتاب كشف الظلام في حقيقة الصلاة و الصيام المطبوع في بيروت سنة1856 وهو بروتستانتي ما نصه : ” إنه لا يجوز للمسيحي أن يتغافل عن حقيقة الصيام ووجوبه لأن استعماله اللائق هو جملة الوسائط بقهر الخطية وللنمو في النعمة و القداسة ، و أن الإنسان الذي يطالع الكتب المقدسة بفكر خال من الغرض لا يستطيع أن ينكر ممارسة الصوم ، و إننا نخشى أن كثيرين من المسيحيين الحقيقيين يتغافلون عنه كلية وبذلك لا يفقدون منافعه في أنفسهم فقط ، بل يجعلون عليهم سبباً للتهمة من أخصام الإيمان الصحيح في أنهم يتبعون ديانة تعطيهم رخصة واسعة للتمتع بما تشتهيه أجسادهم . وربما كان السبب لتركه عند البعض الكسل الروحي ومحبة الراحة .

وأما عند الكثيرين فهو لأنهم لم يحصل لهم تعليم كاف و إنذار من هذا القبيل ولا يرون الصوم من واجباتهم ولا يعرفون كم من الفوائد الناتجة من استعماله .

و الصوم مما يقتضيه كلام السيد المسيح عن الواجبات الدينية التي تختص بعبادة الله ، حتى أن الإنسان إذا مارسه بالاستخفاف سواء كان جاهلاً حقيقته ومعاناة أم قاصداً التظاهر فأنه قد أتى إهانة باهظة في حق الله .

وكثيراً جداً هي شهادات الأشخاص و الكتب التي ينكر اتباعها الآن الصوم مثل كتاب تاريخ كنيسة المسيح وكتابه ربحانة النفوس ووليم أدي الأمريكي وغيره شهدوا عن حقيقة الصوم وأنه من واجب الواجبات الدينية على كل مسيحي .

وأختتم هذه الشهادات بما قالته دائرة المعارف الفرنسية : لا طهر بغير صوم ولا صوم إلا إذا كان متبوعاً بجميع الكمالات الأدبية . لأن الصوم ينبوع القداسة تتضمن تلك الكمالات كلها .

 

97- الصوم و حشو البطون

هناك قوم يصومون و يتذللون و كأنهم يندمون علي تذلل أجسامهم طول اليوم فيفتحون بطونهم آخر النهار لالتهام الأطعمة الشهية معطين الجسد لذته ، يمسكون الجسد بحبل الصوم نهاراً و يطلقونه ليلاً علي كل شهي و لذيذ من الأطعمة و هذا الصوم بمثابة كأس او كأسين من الخمر لفتح الشهية لأنهم يصومون ليجوعوا ليستطيعوا أن يأكلوا بشهية ما تشتهيه أنفسهم و قد قيل “حلاوة المأكول جع و كل”

 

98- باقة من القديسين

جاء في تاريخ الكنيسة ان القديس أغاثو العمودي ازداد في النسك حتى أن حياته كانت سلسلة من الصوم و الصلاة ، و لم يكن ينام إلا علي الأرض حتى لصق جلده بعظمه ، وعن الأنبا فريج (رويس) أنه لما حدثت ضائقة علي النصارى جاء إلي مصر ينتقل من مدينة إلي مدينة ، و لم يكن له بيت يأويه و كان لا يعرف إلا الصلاة و النوح و لم يلبس إلا خرقاً يستر بها جسمه و لم يكن يتكلم إلا نادراً ، و عن القديس إبراهيم المتوحد انه قضى ستة عشر سنة لا يأكل في كل يوم إلا ربع قدح من الفول المبلول المملح في الماء . و كان يكسو جسمه بقطع من الخيش ، و عن القديس إيلاريون انه كان ينقطع عن الأكل أسبوعاً كاملاً يأكل بعده قليلاً من الحشائش و البقول ، و عن أنبا بولا السائح انه قضى سبعين سنة في البرية يتناول ثمر النخل و كان لباسه ثوباً من الخوص .

و يعوزنا الوقت لو سردنا كل القديسين الذين قضوا حياتهم في زهد و تقشف أمثال مار أنطونيوس و باخوميوس و مكاريوس و غيرهم ، و لو وصفنا عيشة النسك الزائد التي عاشوها سواء كان في طعامهم او شرابهم أو لباسهم او مسكنهم .. البعض لم يعيشوا إلا علي تناول النباتات ، و البعض لم يشرب في كل أربع و عشرين ساعة إلا كاس ماء واحد ، و البعض ذلل جسمه بلبس الليف و الثياب الوضيعة و بهذا كله انتصروا علي الجسد الجبار .

 

99- الصوم و أقوال القديسين

تذكر فيما يلي القليل من أقوال القديسين عن الصوم :

يقول مار أسحق : ” مائدة الإنسان الذي يداوم الصوم هي أحلى من كل عطر المسك و أزكى من أريج الزهر . خذ لنفسك شفاء لحياتك من علي مائدة الصوامين السهاري أولئك العاملين في الرب” .

بين هؤلاء يتكئ الحبيب و يقدسهم محولاً مرارة ريقهم إلي حلاوة تفوق حد التعبير ، ويجعل السمائيين يعززونهم و يقوونهم . إني أعرف أحد الأخوة رأي ذلك ظاهراً بعينيه .

و يقول مار أسحق أيضاً : ” حينما ينحط الجسد بالأصوام و الإماتة تتشدد النفس روحياً في الصلاة ، لأن الجوع اكبر معين علي تهذيب الحواس ، و في بطن امتلأ بالأطعمة لن يوجد مكان لمعرفة أسرار الله ” .

الصوم هو بداءة طريق الله المقدس . و هو صديق ملازم لكل الفضائل .

الصوم تقديم كل الفضائل ، بداية المعركة ، تاج النصرانية ، جمال البتولية ، حفظ العفة ، أبو الصلاة ، نبع الهدوء ، معلم السكوت ، بشير الخيرات . بمجرد أن يبدأ الإنسان بالصوم يتشوق العقل لعشرة الله . إن كان معطي الناموس المسيح- قد صام بنفسه فكيف لا نصوم نحن الذين وضع الناموس من أجلنا .

و يقول أيضاً : ” الذي يصوم عن الغذاء و لا يصوم قلبه عن الحنق و الحقد و لسانه ينطق بالأباطيل فصومه باطل . لأن صوم اللسان أخير من صوم الفم و صوم القلب أخير من الاثنين .

و يقول الأب يوحنا : ” تأكد تماماً أن العدو يهاجم القلب عن طريق امتلاء البطن ” .

و يقول القديس يوحنا كاسيان : ” إنه امر عجيب فبينما نهمتم بصحتنا و نكثر من اعتنائنا بأنفسنا و من تناول الطعام الشهي المفيد للصحة و نختار الشراب الصافي و نتنزه في الهواء الطلق ، نجد أنفسنا في النهاية معرضين للأمراض و الأوجاع مع أن القديسين الذين احتقروا أجسادهم و أماتوها بالعمل و الصوم و الصلاة الدائمة اكثر صحة و سلامة .

و بينما أجسادنا المعتنى بها تفسد و تنتن و تنبعث منها رائحة كريهة بعد الوفاة ، إذ بأجساد القديسين المهملة عندهم و المزدرى بها جداً تبقى عطرة و تفوح  منها روائح ذكية حتى بعد الوفاة .

إنه أمر عجيب جداً ، إذ بينما نظهر كأننا نبني ، نهدم دون أن ندري ، و بينما يهدمون نجدهم بالعقل يبنون ، ” من وجد حياته يضيعها و من أضاع حياته من أجلي يجدها ” (مت10: 39).

لقد جرب آباؤنا الصوم كل يوم نافع و موافق لنقاوة النفس ، و نهونا عن امتلاء البطن من أي طعام كان ، حتى و من الخبز البسيط و من الماء أيضاً .

ويقول القديس أوغسطينوس :

” كما ان الهيكل الذي بناه سليمان أقام فيه مذبحين أحدهما من خارج و الآخر من داخل ، هكذا يلزم الإنسان الذي هو هيكل للروح  القدس أن يكون فيه مذبحان ، الواحد داخلي و هو القلب حيث يقدم عليه بخور الصلاة و عطرها . و الآخر خارجي حيث يقدم عليه الجسد كذبيحة بواسطة الصوم و صنوف التقشف و النسك “.

و يقول القديس يوحنا التبايسي :

” صوم الجسد هو الجوع من الغذاء ، البعد عن المأكولات ، النسك من الدسم ، و صوم النفس هو ان يجوع الإنسان و يعطش للبر ، و  يصوم عن التدابير الرديئة ، و عن الاهتمام بها و عن ذكر الرذائل “.

و يقول القديس يوحنا ذهبي الفم :

” أي برهان يدلنا علي محبة الصوم لجنسنا ، كيف انه يحارب عنا أعدائنا و ينقذنا من أسرهم و يوصلنا إلي حريتنا الأصلية “.

و يقول القديس باسيليوس :

” إن الصوم الحقيقي هو سجن الرذائل ، أعنى ضبط اللسان ، و إمساك الغضب ، و قهر الشهوات الدنسة “.

 

100-  الصوم الباطل

هو الصوم الشكلي الذي يقتصر علي مجرد الامتناع عن الطعام دون ان ترافقه صلاة او إحسان .. هذا صوم ليس فيه شئ ديني و يعد عملاً باطلاً و انه لمن الضلال و الغرور أن يعتبر الناس الصوم كمجرد ممارسة تقوية ليس من الضروري أن ترافقه صلاة او إحسان ، فهذا فخ لا صوم لأنه يشجع الناس علي ان يجعلوا ديانتهم شكلية و تصبح عباداتهم ومظاهر دينهم حركات ميكانيكية .

و إذا كان الصوم المجرد عن فعل الخير غير مقبول و يعتبر شركاً وخداعاً للصائمين فكم يكون الحال لو كان الصوم كما يقول أشعياء النبي : ” ها إنكم للخصومة و النزاع تصومون و لتضربوا بلكمة الشر ” (إش  58: 4) . و ربما كان ماثلاً أمام أشعياء عندما قال هذا ، تلك الصورة المرذولة لذلك الصوم المرذول الذي أوعزت به إيزابيل الملكة زوجة آخاب الملك لكي تسلب كرم نابوت اليزرعيلي إذ كتبت رسائل باسم آخاب و ختمتها بخاتمه و أرسلت الرسائل إلي الشيوخ و الأشراف الذين في مدينته الساكنين مع نابوت . و كتبت الرسائل تقول نادوا بصوم و اجلسوا نابوت في رأس الشعب و اجلسوا رجلين من بني بليعال تجاهه ليشهدا قائلين لقد جدفت علي الله و علي الملك ثم أخرجوه و ارجموه فيموت ، ففعل رجال مدينته و الشيوخ و الأشراف الساكنون في مدينته كما ارسلت إليهم إيزابيل (1مل21: 8 11 ) .

و لا يزال إلي هذا اليوم يوجد قوم يجعلون الصوم سبباً لضيق الصدر و النزاع و الخصومة و كان خيراً لهم ان لا يصوموا من ان يصوموا ليتنازعوا و ليكون الصوم لهم فرصة للنزاع و الخصومات و ليضربوا بلكمة الشر .

يصومون عن الكل و يأكلون بعضهم بعضاً .

يمسكون عن الطعام و في نفس الوقت يمسكون بأيديهم و أسنانهم الحقد و النزاع يمتنعون عن أكل الطعام و ينهشون بعضهم بعضاً !

إن المبدأ المقرر هو انه إذا كان الإنسان علي وفاق مع الله كان علي وفاق مع إخوانه البشر لأنه كما يقول الرسول : ” من يحب الوالد يحب المولود منه ” .

و إذا كان الإنسان في صومه لا يحتمل إخوانه و لا يستطيع أن يغفر غلطاتهم فكيف يستطيع أن يكون في حالة أدبية يستطيع معها ان ينال من الله غفراناً لخطاياه .

و إذا كان الإنسان قاسياً مغتصباً صارماً في معاملاته مع زملائه البشر فكيف يخدع نفسه ويتذلل بالصوم و ينتظر من وراء صومه رحمة الله وغفرانه له . لأن الله لا ينظر إلي سحنته الحزينة و لا صومه و لا ادعاءه .

 

101- إني أعترض

البعض يحتجون ببعض أقوال من الكتاب المقدس مثل قول السيد المسيح ” ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان بل ما يخرج من الفم هذا ينجس الإنسان ” (مت 15: 11) ، و لكننا نجيبهم بأن السيد المسيح قال هذه الكلمة ليس عن الصوم بل رداً علي الفريسيين الذين كانوا يعتبرون الأكل بدون غسل الأيدي نجساً . خصوصاً و نحن لا نعتبر اللحوم و غيرها من الأطعمة نجسة ، لأننا نعتقد بان كل خليقة الله طاهرة و الدليل علي ذلك أننا نتناولها في أيام الفطر . و أما امتناعنا عنها في أوقات مخصوصة فلمجرد الزهد و تذليل الجسد .

كذلك يلفتون نظرنا إلي قول الرسول : ” و أما الضعيف فيأكل بقولاً ” (رو14: 1) و غلي قوله ” فلا يحكم عليكم أحد في أكل أو شرب ” ( 1كو 2: 16) و نجيبهم بأن هذه الكلمة موجهة إلي المؤمنين الذين كانوا مرتبكين  في أمر الطعام لأنهم عرفوا ان الشريعة اليهودية حرمت كثيراً من أنواع الحيوانات و الطيور . فلرغبتهم فغي السير بموجب هذه الشريعة وخوفهم من تناول بعض أنواع ربما تكون محرمة امتنعوا عن أكل اللحوم كلية . و لكن الرسول كتب إليهم يعلمهم أنهم في إمكانهم أن يتناولوا كل شئ ، أما إذا كانوا متشككين فليأكلوا بقولاً .

و يعترضون أيضاً بما جاء في الرسالة الأولى إلي تيموثاوس ” و لكن الروح يقول صريحاً انه في الأزمنة الخيرة يرتد قوم عن الإيمان . تابعين أرواحاً مضلة … مانعين عن الزواج و آمرين أن يمتنعوا عن أطعمة قد خلقها الله لتتناول بشكر . لأن كل خليقة الله جيدة” (1تي4: 1 4 ) و نجيبهم أيضاً بان الرسول يشير إلي بدعة ماني و غيره م الهراطقة الذين علموا الناس ان أكل اللحوم و الزواج أمران نجسان و لكن الرسول في هذا القول يحذرنا من مثل هذا التعليم المضل .

 

102- لا تستمع لذوي الأهواء و الأغراض

نظام الكنيسة القبطية في الصوم نظام حكيم جداً لأنه يجعل لنا فرصاً في أوقات متفرقة ومنظمة لكي نصوم و نروض أرواحنا ، فيجب أن نخضع لنظام الكنيسة لأن المسيح أمرنا بذلك ” من يسمع منكم يسمع مني ” (لو 10 :16) ، فاخضعوا لكل ترتيب بشري من اجل الرب ” (1 بط 2: 13) ، و إن لم يسمع من الكنيسة فليكن عندك كالوثني و العشار ” (مت18 : 17) . و لا ينبغي أن نستمع لذوي الأهواء و الأغراض الذين يحاولون صرفنا عن ركن هو من أهم أركان العبادة و الحياة الفاضلة .

 

103- هكذا ينبغي أن نصوم

و الآن هيا بنا نصوم .. لا عن تعود و لكن عن تشوق .. لا خوفاً من شئ و لكن حباً لما نكتسبه من نمو .. لا لنشارك محبي الله فيما يفعلون و لكن لنختبر حلاوة الصوم و ما فيه من جمال يفوق الوصف .. و لنترك ما فات و نبدأ بداية جديدة تردد فيها مع أحد القديسين “هلم يا نفسي في هذه السنة نتقن الصوم ، و لنجاهد حتى أخفى صومي و لا اترك أميالي الباطلة تظهر صومي أمام الناس ، و إن ظهرت مظاهر هذا الصوم أمام الناس فلأسعى لإخفائها سريعاً . هذا ليس رياء .. لأنني أحاول أن أخفي علاقة سرية لا تحتاج إلي الإعلان او الضجيج ، أما الرياء الذي ينبغي أن أحذره فهو أن أظهر نفسي صائماً بلياقة أمام الناس. سأشعر بفائدة الصوم لنفسي و بمدى النمو الذي حدث في حياتي الروحية و إلا فإن لم أشعر بذلك تكون نعمة الله لم تعمل معي بعد .. و لكن حينما أشعر بذلك لا ينبغي أن أفتخر أمام الناس بهذا بل عليّ أن أفحص ذاتي لأقرر أنني قصرت كثيراً و كان يمكنني أن أنمو أكثر مما نموت .. و هذا يدفعني للتطلع إلي النمو و الجهاد في حياة الصوم ” .

علمني يا رب حياة التواضع في الصوم .. علمني كيف أسعى لتمجيد اسمك في حياتي .. وانزع مني كل ميل باطل .. و علي رأس هذه الميول الباطلة ذلك الميل الذي يدفعني للافتخار بين الناس بصومي .. ليكن صومي في الخفاء .. بلا ضجيج .. وبلا إعلان .. وعندئذ فإنك أنت يا من ترى في الخفاء سوف تجازيني علانية .. فيكون ذلك مدعاة لتمجيد اسمك القدوس.

 

 

أضف تعليق